إسرائيل في دوامة الهلاك.. مَنْ سيهلك معها؟
إن لا شيء يستوجب المفاجأة في الإعلان عن أن الجنود في سدي تيمان؛ وهو معسكر اعتقال أقامته إسرائيل في أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر في الجنوب، يستخدمون الاغتصاب بشكل روتيني كسلاح تعذيب ضد الأسرى الفلسطينيين. لقد تم إلقاء القبض على تسعة جنود من "القوة 100" من وحدة السجون الأسبوع الماضي، بتهمة الاغتصاب الجماعي بأداة حادة لأسير فلسطيني؛ ما أوجب نقله إلى المستشفى متأثرًا بجراحه.
وكان قد أُعلن عن قتل ما لا يقل عن 53 أسير في السجون الإسرائيلية، ويرجح أن السبب في معظم الحالات إما التعذيب أو نتيجة الحرمان من الحصول على الرعاية الطبية. ولم تقم إسرائيل بأي تحقيقات واعتقالات. إذًا؛ لماذا يجب أن يكون من المفاجئ أن إسرائيل التي نصَّبت جيشها "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، تستخدم التعذيب والاغتصاب ضد الفلسطينيين؟ سيكون من المفاجئ حقًا إن لم يحدث هذا.
في المحصلة؛ هذا هو نفس الجيش الذي يستخدم التجويع كسلاح حرب ضد 2.3 مليون شخص منذ مدة 10 أشهر في غزة، ونصفهم من الأطفال. وهو نفس الجيش الذي دمر منذ أكتوبر/تشرين الأول[1] جميع مستشفيات غزة، بالإضافة إلى تدمير جميع مدارسها تقريبًا و 70% من منازلها. وهو نفس الجيش المعروف بأنه قتل ما لا يقل عن 40 ألف فلسطيني، و21 ألف طفل آخرين في عداد المفقودين على مدار تلك الفترة[2]، كما أنه نفس الجيش الذي يُحاكم حاليًا بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وهي أعلى محكمة في العالم.
إن لم تكن هناك خطوط حمراء أمام إسرائيل عندما يتعلق الأمر بالتعامل الوحشي مع المدنيين الفلسطينيين المحاصرين داخل غزة، فلماذا سيكون هناك أي خطوط حمراء لأجل أولئك الذين اختطفتهم من شوارع غزة وجرتهم إلى زنازينها؟
العنف الجنسي
لقد قمت بتوثيق بعض الفظائع التي تكشَّفت في سدي تيمان في مايو هنا. وكانت قد بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية قبل أشهر بنشر شهادات من الحراس والأطباء الذين أبلغوا عن المخالفات ووضحوا بالتفصيل الظروف الفظيعة هناك. ومُنعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من الوصول إلى معسكر الاعتقال، مما تركه كليًا دون مراقبة.
كما نشرت الأمم المتحدة تقريراً في 31 يوليو/تموز عن الظروف التي احتُجز فيها حوالي 9400 أسير فلسطيني منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتم عزل معظمهم عن العالم الخارجي، ولم يتم الإفصاح بتاتًا عن سبب احتجازهم وسجنهم.
وخلص التقرير إلى أن "الأفعال المروعة" من التعذيب والانتهاك تحدث في جميع مراكز الاعتقال الإسرائيلية، بما في ذلك العنف الجنسي، والغرق لحد الاختناق، والاعتداءات باستخدام الكلاب. ويشير معدي التقرير إلى "التعري القسري لكل من الرجال والنساء، وضربهم وهم عراة، بما في ذلك على الأعضاء التناسلية، والصعق الكهربائي للأعضاء التناسلية والشرج، وإجبارهم على الخضوع لعمليات التفتيش العاري المهين والمتكرر، والإهانات الجنسية والتهديدات بالاغتصاب على نطاق واسع، واللمس الغير لائق للنساء من قبل كل من الجنود الذكور والإناث". ووفقًا للتحقيق، هناك "تقارير متطابقة" عن قيام قوات الأمن الإسرائيلية "بإدخال أجسام في شروج المعتقلين".
وأقرت منظمة "إنقاذ الطفل" الشهر الماضي أن مئات عديدة من الأطفال الفلسطينيين سجنوا في إسرائيل، حيث عانوا من التجويع والاعتداء الجنسي. وهذا الأسبوع، أصدرت المنظمة الإسرائيلية الرئيسية لحقوق الإنسان "بتسيلم" والتي ترصد الاحتلال، تقريرًا بعنوان "مرحبًا بكم في الجحيم"، يتضمن شهادات لعشرات الفلسطينيين الذين خرجوا مما أسمته "الظروف اللاإنسانية"، وذلك دون اتهام أغلبهم بارتكاب جريمة.
وخلصت إلى أن الانتهاكات في سدي تيمان هي "مجرد غيض من فيض". كما تشكل جميع مراكز الاعتقال الإسرائيلية "شبكة من معسكرات التعذيب للفلسطينيين"، حيث "يُحكم على كل سجين عن قصد بالألم والمعاناة الشديدين التي لا هوادة فيهما"، وأضافت أن هذه "سياسة منظمة ومعلنة لسلطات السجون الإسرائيلية".
وكتبت الأسبوع الماضي تل شتاينر، رئيسة اللجنة العامة ضد التعذيب في إسرائيل والتي طالما ناضلت ضد التعذيب الممنهج للمعتقلين الفلسطينيين؛ أن سدي تيمان "كان المكان الذي يحدث فيه أبشع تعذيب رأيناه على الإطلاق".
علبة ديدان
باختصار، لقد كان سراً مكشوفًا في إسرائيل أن التعذيب والاعتداء الجنسي أمر روتيني في سدي تيمان. إن الانتهاك مروع للغاية بصورة استدعت المحكمة العليا الإسرائيلية الشهر الماضي أن تطلب من المسؤولين شرح سبب عملهم خارج القوانين الخاصة بإسرائيل والتي تحكم باعتقال "المقاتلين غير القانونيين".
إذًا المفاجأة ليست أن العنف الجنسي يتم إلحاقه بالأسرى الفلسطينيون. إنما، أن كبار الضباط الإسرائيليين تصوروا اعتقال الجنود الإسرائيليين بسبب اغتصابهم لفلسطيني سيحظى بالقبول من الشعب، بالمقابل، فتح الجيش علبة سامة من الديدان بإجراء الاعتقالات. وقد أثارت الاعتقالات ردود فعل عنيفة من الجنود والسياسيين ووسائل الإعلام الإسرائيلية وشرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي.
واقتحم مثيرو الشغب معتقل سيدي تيمان بقيادة أعضاء في البرلمان الإسرائيلي، كما حاولت مجموعة أكبر، بما في ذلك أفراد من "القوة "100 اقتحام "بيت ليد"؛ القاعدة العسكرية التي تم فيها احتجاز الجنود، في محاولة لإطلاق سراحهم. وتأخرت الشرطة في الوصول لتفريق الاحتجاجات، تحت سيطرة المستوطن القائد إيتامار بن غفير ذو التوجهات الفاشية العلنية. إذ دعا بن غفير بصورة مستعجلة إلى إعدام أو قتل الأسرى الفلسطينيين "برصاصة في الرأس"، لتوفير تكاليف اعتقالهم.
ولم يتم اعتقال أي شخص بسبب ما يرقى إلى تمرد والخرق الكبير للأمن أيضًا. فيما ساعد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في تأجيج السخط الشعبي، وشجب الاعتقالات، ووصف جنود "القوة 100" بأنهم "محاربون أبطال". وردد وزراء آخرون بارزون في مجلس الوزراء نفس الخطاب.
وبالفعل؛ تم إطلاق سراح ثلاثة من الجنود، ومن المرجح أن يتبعهم المزيد، إذ يتمثل الإجماع في إسرائيل بأن أي انتهاك، بما في ذلك الاغتصاب، مسموح به ضد آلاف الفلسطينيين الذين اختطفتهم إسرائيل في الأشهر الأخيرة؛ بما في ذلك النساء والأطفال ومئات عديدة من العاملين في المجال الطبي. هذا الإجماع هو نفسه الذي يرى أنه من الجيد قصف النساء والأطفال الفلسطينيين في غزة وتدمير منازلهم وتجويعهم.
السماح بالاغتصاب
إن هذه السلوكيات الفاسدة ليست جديدة. إنهم يستندون إلى القناعات الأيديولوجية والسوابق القانونية التي تطورت عبر عقود من الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني. لقد طبع المجتمع الإسرائيلي تمامًا فكرة أن الفلسطينيين أقل من البشر، وأن أي إساءة وكل إساءة إليهم مسموح بها.
وببساطة، فإن هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر جعل الفساد الأخلاقي الراسخ في صميم المجتمع الإسرائيلي أكثر وضوحاً إلى العلن. على سبيل المثال؛ عين الجيش الإسرائيلي العقيد إيال كريم كرئيس للحاخامات في عام 2016، حتى بعد أن صرح بأن الفلسطينيين "حيوانات"، وموافقته على اغتصاب النساء الفلسطينيات من أجل رفع معنويات الجنود. دعونا نلاحظ أن المتطرفين الدينيين يهيمنون بشكل متزايد على القوات المقاتلة.
ورفضت المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2015 دعوى تعويض من قبل سجين لبناني قدمها محاموه بعد إطلاق سراحه في عملية تبادل للأسرى. إذ تعرض مصطفى الديراني للاغتصاب بعصا قبل 15 عامًا في سجن سري يُعرف باسم "المنشأة 1391".
وعلى الرغم من أن ادعاء الديراني مدعوم بتقييم طبي من قبل طبيب عسكري إسرائيلي في ذلك الوقت، إلا أن المحكمة حكمت بأن أي شخص يشارك في مواجهة مسلحة مع إسرائيل لا يمكنه تقديم ادعاء ضد الدولة الإسرائيلية. بينما، أبلغت منظمات حقوقية إنسانية وقانونية بانتظام عن حالات اغتصاب الجنود والشرطة الإسرائيليين للفلسطينيين والاعتداء الجنسي عليهم، بمن فيهم الأطفال.
لقد تم إرسال رسالة واضحة إلى الجنود الإسرائيليين على مدى عقود عديدة مفادها أنه مثلما يعتبر القتل الإبادي للفلسطينيين مبررًا و "قانونيًا"، فإن تعذيب واغتصاب الفلسطينيين المحتجزين في الأسر يعتبر مبررًا و "قانونيًا" أيضًا. بشكل مفهوم؛ هناك سخط من أن "القوانين" القائمة منذ فترة طويلة والتي تسمح بالفظائع كلها أيا كانت، يبدو وأنها تتغير فجأة وبشكل تعسفي.
على حافة الهاوية
السؤال الأهم هو: لماذا وافق المستشار القانوني الأعلى للجيش الإسرائيلي على فتح تحقيق في جنود "القوة 100"، ولماذا الآن ؟ الإجابة واضحة؛ إن قادة إسرائيل في حالة ذعر بعد موجة من الانتكاسات في الساحة القانونية الدولية. لقد قامت محكمة العدل الدولية، التي يشار إليها أحيانًا بالمحكمة العالمية، بمحاكمة إسرائيل لارتكابها ما تجده إبادة جماعية "معقولة" في غزة.
من ناحية أخرى؛ خلصت الشهر الماضي إلى أن الاحتلال الإسرائيلي الذي دام 57 عامًا غير قانوني وشكل من أشكال العدوان على الشعب الفلسطيني. وحكم القضاة بأن غزة لم تتوقف عن كونها تحت الاحتلال، على الرغم من ادعاءات المدافعين بعكس ذلك، بما في ذلك الحكومات الغربية.
والأهم، يعني ذلك أن الفلسطينيين يملكون الحق القانوني في مقاومة احتلالهم، أو بعبارة أخرى، يملكون حق ثابت في الدفاع عن النفس ضد محتليهم الإسرائيليين، في حين أن إسرائيل لا تملك مثل هذا الحق ضد الفلسطينيين الذين تحتلهم بشكل غير قانوني.
لهذا؛ إسرائيل ليست في "صراع مسلح" مع الشعب الفلسطيني، إنها تحتلهم وتضطهدهم بوحشية. كما يجب على إسرائيل أن تنهي الاحتلال فورًا لاستعادة مثل هذا الحق في الدفاع عن النفس، وهو أمر من الواضح أنها لا تنوي القيام به.
وفي الوقت نفسه، يسعى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهي المحكمة الشقيقة لمحكمة العدل الدولية، بشكل فعال إلى إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب. إذ تدعم القضايا المتعددة بعضها البعض، لتجعل قرارات محكمة العدل الدولية الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية في التقاعس عن إصدار وتوسيع دائرة أوامر الاعتقال.
وتتعرض كلتا المحكمتين الآن لضغوط مضادة هائلة، فمن ناحية، تُمارس ضغوط خارجية هائلة على محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية من دول مستعدة لرؤية استمرار الإبادة الجماعية في غزة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. ومن ناحية أخرى، فإن القضاة أنفسهم يدركون تمامًا ما هو على المحك إذا فشلوا في اتخاذ إجراء.
وكلما تأخروا أكثر، زادوا التشكيك بالقانون الدولي ودورهم كحكمين في هذا القانون، وسيتيح ذلك مجالاً أكبر للدول الأخرى للادعاء بأن تقاعس المحاكم قد أرسى سابقة في أحقيتها لارتكاب جرائم حرب. إذ يقف القانون الدولي على حافة الهاوية، وهو الأساس المنطقي الكامل لوجود محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. إن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل تهدد بانهيار كل شيء.
مماطلة المحكمة الجنائية الدولية
يقف كبار الضباط الإسرائيليين في قلب هذه المعركة. إنهم واثقون من أن واشنطن ستعرقل أي جهد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإنفاذ أحكام محكمة العدل الدولية ضدهم، سواء الحكم المستقبلي بشأن الإبادة الجماعية في غزة أو الحكم الحالي بشأن احتلالهم غير القانوني.
لكن الأمر مختلف فيما يتعلق بمذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. إذ لا تملك واشنطن فيتو مماثل. وستكون جميع الدول الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ أي معظم الدول الغربية وباستثناء الولايات المتحدة، ملزمة باعتقال المسؤولين الإسرائيليين الذين يدوسون أراضيها وتسليمهم إلى لاهاي.
لقد كانت إسرائيل والولايات المتحدة تأملان استخدام حيل لتأخير إصدار مذكرات الاعتقال لأطول فترة ممكنة. والأهم من ذلك، أنهما وظفتا المملكة المتحدة، الموقعة على نظام روما الأساسي، للقيام بعملهما القذر.
يبدو أن حكومة المملكة المتحدة الجديدة بقيادة كير ستارمر ستواصل ما توقفت عنده سابقتها، من خلال عرقلة المحكمة في مناقشات قانونية مطولة وغامضة حول استمرار تطبيق اتفاقية أوسلو التي مضى عليها 30 عامًا ولم تعد مجدية.
لقد دعم المحامي السابق في حقوق الإنسان ستارمر إسرائيل مرارًا وتكرارًا في الإبادة الجماعية "المعقولة"، حتى أنه اعتبر بأن تجويع سكان غزة بمن فيهم أطفالها، يمكن تبريره على أنه "دفاع عن النفس"، وهي فكرة خارجة تمامًا عن القانون الدولي، الذي يعتبرها عقاب جماعي وجريمة حرب.
ولكن، الآن مع وجود أغلبية برلمانية متماسكة، يبدو أن حتى ستارمر متردد من أن يُنظر إليه على أنه يساعد نتنياهو شخصيًا على تجنب الاعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وكانت قد أعلنت حكومة المملكة المتحدة في أواخر الشهر الماضي أنها ستسحب اعتراضاتها القانونية في المحكمة الجنائية الدولية، مما ترك فجأة كل من نتنياهو والقيادة العسكرية الإسرائيلية مفضوحين للغاية، وهذا هو السبب الذي جعلهم مجبرين على الموافقة لاعتقال جنود من "القوة 100".
وبموجب قانون يعرف باسم "التكامل"، قد يتمكن المسؤولون الإسرائيليون من تجنب محاكمات جرائم الحرب في لاهاي؛ إذا تمكنوا من إثبات أن إسرائيل قادرة ومستعدة لمقاضاة جرائم الحرب بنفسها، ومن شأن ذلك أن يجنب الحاجة إلى تدخل المحكمة الجنائية الدولية والاضطلاع بصلاحياتها.
لقد تأمل كبار الضباط الإسرائيليين أن بإمكانهم التضحية بعدد قليل من الجنود من أصحاب الرتب المتدنية للمحاكم الإسرائيلية وإطالة أمد المحاكمات لسنوات، وفي تلك الأثناء، سيكون لدى واشنطن الذريعة التي تحتاجها لترهيب المحكمة الجنائية الدولية لإسقاط ملف الاعتقالات استنادًاإلى أن إسرائيل بالفعل تقوم بمهمة محاكمة مرتكبي جرائم الحرب.
العزلة الدولية
تكمن الإشكالية الواضحة في هذه الاستراتيجية بأن المحكمة الجنائية الدولية ليست معنية في المقام الأول ببضعة جنود تتم محاكمتهم في إسرائيل كمجرمي حرب، حتى مع افتراض أن المحاكمات تجري. إن جوهر القضية هي الاستراتيجية العسكرية التي سمحت لإسرائيل بقصف غزة وإعادتها للعصر الحجري، والثقافة السياسية التي جعلت تجويع 2.3 مليون شخص يبدو طبيعياً.
وأيضًا؛ الغلو الديني والقومي المزروع منذ فترة طويلة في الجيش، والذي يشجع الجنود الآن على إعدام الأطفال الفلسطينيين بإطلاق النار عليهم في الرأس والصدر، كما شهد طبيب أمريكي تطوع في غزة.
فضلا عن التسلسل الهرمي العسكري الذي يغض الطرف عن الجنود الذين يغتصبون الأسرى الفلسطينيين ويعتدون عليهم جنسياً، بمن فيهم الأطفال. إن المسؤولية لا تقع على عاتق قلة من الجنود في "القوة 100"؛ إنما تقع على الحكومة الإسرائيلية والقادة العسكريين. إنهم على رأس سلسلة القيادة التي أذنت بارتكاب جرائم حرب في غزة على مدى الأشهر العشرة الماضية، وقبل ذلك لعقود في جميع أنحاء الأراضي المحتلة. لهذا؛ استهان المتفرجون تمامًا بما هو على المحك في أحكام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
وتدفع هذه الأحكام ضد إسرائيل إلى كشف الأمور للتدقيق المناسب في الحالة الراهنة التي قبلها الغرب بسرية لعقود. فهل يجب أن تملك إسرائيل الحق في العمل كنظام فصل عنصري يشارك بشكل ممنهج في التطهير العرقي وقتل الفلسطينيين؟
هناك حاجة إلى إجابة مباشرة من كل عاصمة غربية، إذ لم يعد هناك مكانًا للاختباء. وتواجه الدول الغربية اختيارًا واضحًا؛ إما دعم الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة الجماعية علنًا، أو سحب الدعم لأول مرة.
أما اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يهيمن الآن على الصعيد السياسي وفي صفوف الجيش القتالية، فلا يهتم بأيٍ من هذا لكونه محصنًا بعيدًا عن الضغط، كما أنه على استعداد للتفرد بقراراته. وكما حذرت وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ زمن، فإن فئات من الجيش تتحول الآن فعليًا إلى ميليشيات تنفذ قوانينها الخاصة.
من ناحية أخرى؛ بدأ قادة إسرائيل العسكريون في استيعاب الفخ الذي نصبوه لأنفسهم. لقد غرسوا منذ فترة طويلة التعصب الفاشي بين الجنود على الأرض والمطلوب لتجريد الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي من إنسانيتهم وقمعهم بشكل أفضل. لكن جرائم الحرب التي تبثها وحداتهم مباشرة و بتفاخر، تتركهم الآن معرضين للعواقب القانونية. إن عزلة إسرائيل الدولية تعني أن مكانًا سيكون لهم يومًا ما في قفص الاتهام في لاهاي.
محاصرة آلة الحرب
إن أحكام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لا تقدم فقط شياطين المجتمع الإسرائيلي إلى العلن، أو شياطين الطبقة السياسية والإعلامية الغربية المتواطئة، إنما يحاصر النظام القانوني الدولي آلة الحرب الإسرائيلية تدريجياً، مما يجبرها على الانقلاب على نفسها، ما ينعكس في تعارض مصالح القيادة العسكرية الإسرائيلية الآن بشكل أساسي مع مصالح الرتب والملفات والقيادة السياسية.
والنتيجة، كما حذر الخبير العسكري ياجيل ليفي مطولا؛ ستكون انهيارًا متزايدًا للانضباط، وهو ما أظهرته محاولات اعتقال جنود "القوة 100" بشكل واضح تمامًا. إذ لم يعد ممكنًا تحويل القوة الإسرائيلية العسكرية والماحقة عن وجهتها بسهولة أو بسرعة.
وكما أفادت تقارير أن القيادة العسكرية تحاول بشراسة دفع نتنياهو إلى الموافقة على صفقة رهائن لتحقيق وقف إطلاق النار، ليس لأنها تهتم بسلامة المدنيين الفلسطينيين، ولكن لأنه كلما طال أمد هذه الإبادة الجماعية "المعقولة"، كلما كبرت الفرصة أن ينتهي المطاف بالقيادات العسكرية في لاهاي.
ويتجاهل متعصبو إسرائيل مناشدات كبار الضباط. فهم لا يريدون فقط مواصلة الحملة للقضاء على الشعب الفلسطيني، وإنما توسيع دائرة الحرب مهما كانت العواقب. وشمل ذلك الخطوة المتهورة والتحريضية لاغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في إيران الأسبوع الماضي[3]، وهو استفزاز يحمل هدفًا واحدًا فقط؛ يتمثل في تقويض التيار السياسي المعتدل في حماس وطهران.
وكما يبدو مؤكدًا، إذا كان قادة إسرائيل غير راغبين أو غير قادرين على كبح هذه التجاوزات، فستجد المحكمة الدولية أنه من المستحيل تجاهل تهمة الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، وستضطر المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال ضد المزيد من القيادة العسكرية.
إنه منطق تم خلقه يتغذى فيه الشر على الشر في دوامة الهلاك. والسؤال هو؛ ما هو كَمْ المجازر والمأساة التي يمكن أن تنشرها إسرائيل وهي في طريقها للهاوية؟
[1] أكتوبر/ تشرين الأول، 2023
[2] الحصيلة النهائية حتى تاريخ كتابة المقال.
[3] 31 يوليو/ تموز، 2024