ابتلاع التّلال: زمن "المُسْتَعمِر المُتوَحش"

إن الفلسطيني المُتنقل اليوم بين ما هو مُتاحٌ له في مدن الضفة الغربية، أو الذي يخطر بباله أن يقودَ سيارته مُنحَدِرًا من رام الله أو نابلس نَحو أريحا والأغوار سيدرك حجم التّغيرات المُرعبة التي تجري على الأرض، حَيثُ تقوم دولة الاحتلال بتطويع الجغرافيا وهندستها استعماريًّا عبر التّوسع والانتشار الاستيطاني، وفي حال تمكّن صاحبنا المُتنقل بسيارَتِه من الوصول إلى وجهته مُجتازًا الحواجز على مداخل البلدات الفلسطينية ومتخطّيًا الحواجز الرئيسة المقامة على عُقد الطرق الالتفافية، فسيكون واضحًا له خطورة ما تفعله الدولة الاستعمارية في ضبط التجمعات الفلسطينية وفصلها عن بعضها البعض، وكيف تقوم بتحويلها لتجمّعات "هامشية الوجود" في الفضاء المُستَعمر.
على مشارف الغور وحيث التلال التي تُطلّ على انخفاض وادي الأردن كما في كل الضفة الغربية فقدنا الوجود الفلسطيني في مناطق (ج)، وَرُحّلت التجمعات البدوية منها، وفقدنا التلال العالية والمشرفة في سلسلة الجبال الوسطى وصار وجودنا في هذه المناطق وجود الطارئ الخائف، لأن "المُستَعمِر المُتوحش" الذي دفعت به دولة الاحتلال باعتباره أسوأ نماذجها وأدواتها أصبح المُهيمن على هذه الجغرافيا، وصار لِزعران "فتية التّلال"، وعصابات "تدفيع الثمن"، وشبيبة "البؤر الرّعوية" الكلمة في صياغة التّضاريس المَسلوبة، وترسيم حدود الأرض ومنح صلاحيات الوصول إليها، وذلك عبر "التّوحش المُطلق" الذي يُمارسونه بحماية دولة الاحتلال وتحت عينها.
● "أفري ران" شَيطانُ التّلال الأكبر
يَتَمَثَّلُ رُعب الجغرافيا الفلسطينية المسلوبة اليوم بالحالة الاستعمارية الجديدة المَوصوفَةِ بأنها "استيطانٌ رعوي"، وهي التكثيف الصارخ لنموذج "المُستَعمِر المُتوحش" الذي تزعمه أحد غُلاة الصهاينة في منطقة جنوبي نابلس أواسط تسعينيات القرن الماضي، وهو المُتطرف "أبراهام أفري ران"، عقيد متقاعد يتمتع بحماية جيش الاحتلال، ويقوم بزيارته وتشجيعه كبار رجال دولة الاحتلال ونواب الكنيست وَالمتدينون المتشددون وكان على رأس ضيوفه وَمُشجعيه الهالك "أرئيل شارون".
كانت البدايات الأولى لهذه الظاهرة قد وُلِدت في السّنوات الأخيرة من الألفية الماضية حيثُ شُنّت حربٌ مُنَظَّمة بقيادة "أفري ران" ضد قرى جنوب شرق نابلس بدءًا من قرية يانون التي سَلَبَ أرضها ولاحَقَ أَهلها بعد إقامته بؤرة استعمارية تابعة لمستعمرة "ايتمار" حملت اسم "جفعات عوليم" والتي تعني: (التلال الأبدية أو مرتفعات الخلود)، وذلك عام 1996، ثُمَّ بعد ذلك بعامين (1998) أنشأ مزرعة كبيرة ارتبطت بالبؤرة التي أنشأها، وبدأ في استقبال الشُبّان "المُضطربين" والمتطرفين للعمل عنده، وقد التحق بهم طلبة المعاهد التلمودية الذين تربوا على عقيدة التّوحش ضد العرب، ومن هؤلاء جميعًا ولدت المجموعات الأولى لـ "شبان التلال"، وهو الاسم الذي أطلقه "الإعلام الإسرائيلي" على الصهاينة الذين شنوا هجومهم على القرى والتجمعات الفلسطينية، واعتبر "أفري ران" الأب والزعيم لهذه المجموعات. وفي نهاية العام 1998 أقام هؤلاء الزُعران بؤرة استعمارية جديدة حملت اسم "التلة جفعات أرنون" أو "التلة 777"، ثم انفرط على أيديهم عقد الاستيطان في تلال شفا الغور.
في قرية يانون، وتزامنًا مع تشكّل هذه الظاهرة الاستعمارية نهاية تسعينيات القرن الماضي هُوجمت البيوت واعتُدِيَ على المزارعين، وأطلقت النيران عليهم، وجرى تكسير نوافذ البيوت، وفجرت خزانات الماء، وأغلقت الطرق، وقتل اثنان من الأهالي، وأطلقت النيران على السيارات ولُوِّثت عين الماء وأحرق ماتور الكهرباء، وقُطعت الأشجار وسُرقت الأغنام، واعتدي على كبار السن والأطفال، وصارت الحياة جحيمًا يَوميًا اكتملت فصوله بالهجوم على القرية وترحيل أهلها بالكامل في عملية تهجير قسري بتاريخ 19تشرين الأول/ أكتوبر 2002. وصار التوسع اليومي ومهاجمة الأهالي وطردهم والاعتداء عليهم الخبر الأساسي في يانون وجنوب نابلس في سنوات (1998-2004) وقد شَهدّتُ ذلك بنفسي وعشت أيامه.
وعند الحديث عن ظاهرة "المُستعمر المتوحش" التي صُنِعتْ في مستعمرة "ايتمار" والبؤر التابعة لها (جفعات عوليم وجفعات أرنون والتلة 836، وَجدعونيم)، يمكنني القول إن أعمار فتية التوحش هؤلاء كانت تتراوح بين 15 - 30 عامًا، وسرعان ما انطلقوا للعمل في الزراعة وتربية الأغنام والأبقار والدواجن، وكانت حياتهم تتسم بالبدائية والعيش في (الكرفانات) والخيام، وغالبيتهم من المتشددين الذين يدرسون في المدارس التلمودية الأكثر تطرفًا، ومنها مدرسة "إيتمار" الدينية، وكُنّا كلما التقينا بهم في المواجهات في محيط قرية يانون نَتَقزز من بشاعة طباعهم ومظاهرهم وَبدائيتهم، وسوء أخلاقهم وعدوانيتهم الحادة، والتي تبين لنا لاحقاً بأنها مقصودة بحدّ ذاتها في تربيتهم.
لقد كانت"جفعات عولم" بمثابة "شرارة التوحش"، التي أضرمها "أفري ران" وكانت قرية يانون أوّل الضّحايا التي فتك بها ضمن رؤيته الجديدة التي تشربها فتيته اللّمم الذين جذبهم نموذجه المتوحش في مهاجمة الفلسطينيين في يانون خلال 6 سنوات، ثم "انفلت الوحش من رَسنه" وهاج يبتلع الجغرافيا ويتمدد في كل الاتجاهات، وتبنت المستعمرات الدينية وكان أولها "مستعمرة يتسهار" هذا النهج العدائي وصار نموذج "أفري ران" ملهمًا لهم ودافعًا للمزيد من التوحش الذي اكتوينا بناره حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي سُلبت فيها التلال، وصارت الحياة خارج حدود القرى بأمتار كما على الطرقات الرئيسة في الضفة الغربية خاضعة لسيادة "المُستَعمِر المُتوحش".
● تشريع سياسة التّوحش
أثار تصريح الوزير الصهيوني "بتسلئيل سموتريتش" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 القلق بشأن التعليمات التي أعطاها لإدارة "الاستيطان والإدارة المدنية" في حكومته وذلك للبدء بإعداد البنية التّحتية اللازمة لتطبيق "السيادة" على الضفة الغربية، مشيراً في تغريدة له على منصة "إكس" بأن 2025 سيكون عام "السيادة الإسرائيلية" على مناطق الضفة الغربية.
وتأتي هذه التّصريحات الصهيونية المَسعورة في الفترة الأخيرة تتويجًا لسنواتٍ طويلة من السّعي لتغيير الوقائع على الأرض عبر استباحة الأرض وسرقتها وإقامة المُستعمرات التي تجعل الحديث عن دولة فلسطينية أمرًا من المستحيل تَحقيقه مع ابتلاع المناطق (ج) والتي تُشكل 61% من مساحة الضفة الغربية. فقد بلغ عدد المستعمرات في الضفة الغربية دون القدس كما يشير الباحث المختص د. وليد حباس نحو (350 مستعمرة)، وأن المُتوحشين الصهاينة أنشأوا في العام 2024 -أي خلال حرب الإبادة الجذرية- نحو 64 بؤرة رعوية، وأنّ هذه البؤر الرعوية الاستعمارية التي أقيمت بالعصا والبندقية تُسيطر على ما مساحته 400 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية.
وإن المتتبع لحركة الاستيطان يدرك بأنّ هذه التّصريحات التي تسعى لابتلاع الضفة الغربية ليست وليدة خطاب اليمين الصهيوني المتطرف الذي يحكم اليوم والذي يُمثله ثُلاثي الشّر (نتنياهو - سموتريتش - بن غفير)، ذلك أنّ هذا السُّعار في ابتلاع الأرض ومصادرتها، هو جوهر المشروع الاستعماري، بل إنّه الطبيعة الأساسية التي شكلت دولة الاحتلال وصاغت الوجود الصهيوني على أرض فلسطين. وأنّ التّوحش المُتصاعد والذي يُمثله اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو الحالية هو تتويج لهذه السياسات وانعكاس للعقلية التلمودية المتطرفة التي تُنتج هذه الوحوش الآدمية المُتعطشة للقتل والساعية لإنهاء كل ما هو فلسطيني، وأن ما نسمعه الآن هو فقط سعي لصياغة القوانين التي تحمي الاستيطان على الأرض وتُشرّعه.
ولا ريب بأن المعطيات والأرقام المتعلقة بحالة الاستيطان الاستعماري في تلال الضفة الغربية مُنذرة بالخطر وليست أمرًا يُستهان به، إذ تُبين بوضوح أن الضفة الغربية من الناحية العملية انتهت بوصفها حُلم "الدولة الفلسطينية" وأصبحت جزءًا من الدولة الاستعمارية بحكم سيطرة المستعمرات على الفضاء الجغرافي بشكل كامل، عدا بعض المناطق الفلسطينية المُقفلة والتي تنشط فيها السلطة الفلسطينية إداريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وفق التفاهمات بين هذه السلطة "الهّشّة" وبين دولة الاحتلال. الأمر الذي يجعل أيضاً من وجود السلطة الفلسطينية ودورها في هذه المناطق محل قلق وتساؤل في ظلّ جدّية المؤسسة الصهيونية على تغيير الوقائع على الأرض وفرض سياسة الضمّ.
● العصر الذهبي للاستيطان
في الوقت الذي تنشغل فيه السلطة الفلسطينية بالحملة الأمنية على مخيمات شمال الضفة الغربية، يواصل المستعمرون ترسيم حدود ملكياتهم ويتمدد نفوذهم اليومي، وتتضخم قدرتهم على ابتلاع مزيد من الأرض على طول البلاد وعرضها وذلك طبعًا خارج حدود مدينة "المشروع الوطني". وكأنهم بذلك يحققون وصية "أرئيل شارون" التي حث بها المستعمرين الصهاينة في تشرين الأول/ أكتوبر 1998 على أن: "تحركوا وَاهرعوا إلى انتزاع ما تستطيعون من التلال.. لأن كل ما نأخذه الآن سيبقى لنا، وكل ما نتركه سَيذهب لهم".
نخسر يوميًّا مَزيدًا من الأرض ونفقد وجودنا فيها بفعل الهجمات المُنظمة التي تُشن من قبل "المُستَعمِر المُتوَحش" ثم تُشرِعن دولة الاحتلال هذه الخطوات عبر قوانينها وإجراءاتها، ونحن - الفلسطينيون- عُزّلٌ من أيِّ قدرة على الرفض ليس لأنّ عدونا يمتلك القوة والقدرة والدعم العالمي فحسب، بل بسبب السياسات الرسمية لقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية التي تلتزم خيار التسوية بلا أيّ رؤى أو خيارات أو خطوات أخرى. وبين هاتين الحالتين (التّوحش الاستعماري والاستسلام له) تضيع الأرض وسكانها الأصليون، الأمر الذي يجعلنا نمضي إلى مصير مؤلم ما لم يتغير شيء في أحد طرفي الحالة هذه، ذلك أن ضم الضفة الغربية وانتزاع الوجود الفلسطيني الفاعل فيها ليس شعارًا ولا كلامًا يُردد إعلاميًّا وإنما هو حالة نعيشها ونتألم يوميًّا من نتائجها، وندفع الثمن بالقطعة، وكلما مضى الوقت خسرنا أكثر، وعقارب الزمن لا تعود إلى الوراء.