البطريركية اليونانية (2): عهد الانتداب مدخلًا لعهد إسرائيل

البطريركية اليونانية (2): عهد الانتداب مدخلًا لعهد إسرائيل
تحميل المادة

تناولنا في الجزء الأول من المقالة الظروف والطرق التي استغلّتها البطريركية اليونانية للكنيسة الأرثذوكسيّة في فلسطين بهدف مراكمة المزيد من الأموال والأصول العقارية التي كفلت لها القدرة على التحكّم باقتصاديّات الحياة اليومية لكثير من أبناء الرعية الأرثذوكسيّة العرب. بجانب القيمة الدبلوماسية والسياسية التي اكتسبتها جهودُ تحصيلِ تلك الأموال بحيث مكّنت البطريركيّة اليونانية من بناء أواصر متينة مع الدولة العثمانية وأندادها لاحقًا. وتطرّقنا كذلك إلى طريقة تشكّل الوقف المسيحي واستغلال البطريركية له في تسجيل أملاك الرهبان وترِكاتهم تحت تصرفها في فلسطين.

أما الجزء الثاني فسينظرُ في طريقة تكيّف البطريركيّة اليونانية مع تغير موازين القوى عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقيام الانتداب البريطاني على فلسطين عقب جلاء القوات العثمانية في العام 1917. بالإضافة إلى أبرز عمليات البيع والشراء التي شهدتها تلك الفترة، والظروف التي أسست لعلاقة جديدة للبطريركية بمراكز صنع القرار في فلسطين المحتلة.  

 

 

قائمة جرد لممتلكات البطريركية في الفترة (1845-1914)

بدأت البطريركية اليونانية خلال أواسط القرن التاسع عشر عمليات شراء واسعة لأراضٍ ذات أهمية دينية واستراتيجية، وهي عمليات شراء لم تكن لتتمّ لولا عدد من المتغيّرات التي أسلفنا ذكرها في الجزء الأول، ونضيف إليها شعور البطريركية باحتدام المنافسة مع الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية على تطوير الأراضي والسيطرة على المقدّسات وتقديم الخدمات، مما دفع بأعداد متزايدة من أبناء الرعية الأرثذوكسية لتحويل الطائفة.

وقد بدأت أبرز عمليات الشراء في فترة البطريرك أثناسيوس الخامس (1827-1845) والذي أشرف بنفسه على عملية الاستحواذ على ثلثيّ مساحة حيّ الدبّاغة في باب الخليل بالقدس، وتطوير المنطقة القريبة من الحيّ ببناء عدد من الحوانيت والفنادق، بالإضافة إلى شراء موقعين على طول طريق الآلام إلى الجنوب الشرقي من البلدة القديمة بالمدينة، حيث شُيّد ديرٌ لرهبان الكنيسة الأرثذوكسية في إطار التنافس مع كنيسة الروم الكاثوليك المدعومة من فرنسا، وتسجيل جزء من مجمّع الموريستان في حيّ الدبّاغة باسم البطريركيّة. [1]

وفي عهد البطريرك كيرلس الثاني (1845-1872) اتجّهت البطريركية إلى ما وراء أسوار بلدة القدس القديمة، فاشترت أراضي بئر يعقوب بالقرب من نابلس، وعددًا من الأراضي الساحلية الواقعة بين يافا وخليج عكّا، بينما استحوذت على فندق "الجراند نيو هوتيل" بشارع الملك جورج في القدس، وقطعةِ أرضٍ تسمّى بـ"حقل الدِّما" في الجنوب الشرقيّ من البلدة القديمة قُرب رأس العامود، يُعتقد أنّ يهوذا الأسخريوطي كان قد اشتراها بأموال خيانة المسيح حسب الرواية المسيحية. بينما كان البطريرك نيكوديموس (1882-1890) مسؤولًا عن بناء عدد من الحوانيت والمباني الأخرى في حي الدباغة بالقرب من كنيسة القيامة، بالإضافة إلى مدرسةٍ وسوقَيْن أحدهما في مدينة يافا، وتطوير عدد من العقارات التي استحوذت عليها البطريركية خلال العقد السابع من القرن التاسع عشر (1870)، وبلغت موجة الاستحواذ على الأراضي ذروتها بين عامي 1890 و1914. ففي عام 1890، أقدمت البطريركية على شراء عقار شاسع جنوب غرب القدس قرب قرية البريج، أو المنطقة التي ستعرف تحت الاحتلال الاسرائيلي بـ "بيت شيمش"، ضمن ما عُرف بأكبر مقتنيات البطريركية من الأراضي على الإطلاق بواقع 18000 دونم حصلت عليها عبر اتفاقية تبادل عام 1890 مع 17 مالكًا عربيًا للأراضي، وسُجّلت تحت اسم بروكوبيوس، وهو راهب من دير الروم الأرثذوكس أشرف على عملية التبادل.

وعلى مشارف انتهاء القرن التّاسع عشر، استحوذَ الراهب اليوناني "أبتيموس" (ولا نعرف إن كان نفسه هو الراهب المكنّى باسمه سوق إفتيموس) على قطعةِ أرضٍ عند مفترق باب الخليل شُيّد فوقها قصر السرايا الجديد حيث كان مقر الحكومة البريطانية، كما استحوذ على ما سُمّي بسوق الدير، ومزيد من المباني المشيّدة على الطراز الأوروبي للبطريركية والحكومة البريطانيّة على حد سواء، إلى جانب قطعة أرضٍ بمساحة 1000 دونم في القطمون جنوبيّ القدس، حيث شُيّد واحد من أرقى أحياء البرجوازية المسيحية في فلسطين، حيّ "المستعمرة اليونانية" إلى جانب النادي اليوناني في المنطقة نفسها عام 1902.[2]

يُضاف إلى ما سبق، مشتريات الراهب نيكوفوريوس أو "أبي الذّهب" كما سمّاه الفلاحون لوفرة أمواله، وعُرف عنه تقديم دفعاتٍ مالية لشيوخ المدن والقرى بهدف تزويده بمعلوماتٍ حول أهم الأراضي المعروضة للبيع في محيط القدس، وقد دانت له قطعة الأرض الأهمّ في ذلك الوقت والتي عُرفت في أواخر العهد العثماني بأراضي "كرم العنب" أو "نيكوفوريّة" بحسب الباحث زياد منى، الواقعة على بعد كيلومتر واحدٍ من الجنوب الغربي لأسوار البلدة القديمة، والممتدة من لفتا شمالًا إلى بيت صفافا جنوبًا، وزرعتها البطريركية بأشجار الزيتون والتوت والعنب، ثمَّ شيّدت فوقها ثلاثةً من طواحين الهواء في العام 1875 لخدمة أبناء الرعية، وأقيمت عليها أربعة أحياء هي: حيّ المستعمرة اليونانية، وحيّ المستعمرة الألمانية، وحيّ الطالبية الذي سكنه أبناء الطبقة المتوسطة الفلسطينية، ثمّ حيّ رحافيا اليهودي. يُضاف إلى مشتريات "أبي الذهب" 2000 دونم من قرية صرعة و2000 دونم أخرى من قرية رافات الكائنتين غربيّ القدس.

أمّا استحواذات الشخصية الأهم في هذه الحكاية، البطريرك داميانوس (1897-1931) فتمثلت في شراء عدد من الأراضي في جنين وقيسارية نظرًا لمركزيتهما في الموروث البيزنطي، بالإضافة إلى تشييد ما عُرف باسم "دير الدوسي" أو "دير ابن عبيد" في بلدة العبيدية قرب بيت لحم، وتأسيس ديرٍ لرهبان البطريركيّة في جبل صهيون ودير سانت استيفان في وادي النار، وتشييد كنائس في قريتيّ الرينة وطرعان شماليّ فلسطين، وكنيسةٍ أخرى في بيرزيت شمال رام الله، يُضاف إلى ذلك بناء نحو 83 مدرسةً امتلكتها البطريركية عشية الحرب العالمية الأولى تنوّعت ملكيّة أراضيها بين الميري والملك الخاص. [3]

كنيسة بئر يعقوب

كنيسة بئر يعقوب في نابلس

 

البطريركية اليونانية في عهد الانتداب البريطاني

حملت نهايات القرن التاسع عشر عددًا من الأحداث المتلاحقة التي لعبت دورًا في تراكم ديون البطريركية اليونانية، ومنها الحربُ الروسية التركية التي أدّت إلى حرمان البطريركية اليونانية من موارد دخلها التقليدية، عقب وقف السلطات العثمانية الأنشطةَ التبشيرية والتجارية للبعثة الروسية وترحيل أعضائها، بالإضافة إلى تصاعد النبرة القومية الذي وصل أوجه مع بدء تفكّك الإمبراطوريات في أوروبا الشرقية والبلقان، وتشكّل الدولة القومية التي طوّبت أملاك البطريركية اليونانية في الخارج مشاعًا لها ممّا حرم البطريركية من مصادر دخلها التقليديّة في الخارج، بالإضافة إلى انقطاع هبات وعطايا الحجّاج والأثرياء الروس الذين شكّلوا نسبة الثلث إلى النصف من مجموع الحجّاج المسيحيين للأراضي المقدّسة سنويًا بواقع نحو 30,000 زائر، عقب قيام الثورة البلشفيّة وتحييد الكنيسة وأنشطتها عن المشهد العام في العام 1917. وتتضح معالم هذه الخسارة بجلاء عندما نعلمُ أنَّ الروس درجوا على التبرع بمعدّل عشرة جنيهات إسترلينية للفرد الواحد سنويًّا.

جاوزت ديون البطريركية حاجز الـ 600,000 جنيه إسترليني عشية إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، ولم يألُ الدائنونَ من بنوكٍ ومرابين جهدًا للمطالبة بمستحقّاتهم وفوائدها، بينما لاحت مصادرة الممتلكات حلًّا أخيرًا في حال تخلّفت البطريركية عن السداد. يُضاف إلى هذه الحقيقة تاريخ من الصراع السياسي الاجتماعي الدائر بين أبناء الرعيّة العرب وأعضاء البطريركية اليونانية على المشاركة في الإدارة المالية لممتلكات البطريركية، مع المطالبة بالسماح للعرب بالتدرج في مراتب سلّم الإكليروس بعد مئات السنين من التعنّت في ظل الإمبراطورية العثمانية، وقد ارتفعت وتيرة هذه المطالب في عهد الانتداب البريطاني، ظنًّا من أبناء الرعيّة العربيّة بأنَّ الوضع ربّما سيكون مختلفًا تحت حكم جديد.

وهكذا وجدت بريطانيا نفسها أمام وضعيةٍ مركّبة عملت على الاستفادة منها في تحقيق مصالحها الاستعمارية. فمن جهة، مثّلت عقارات البطريركية وأراضيها فرصةً لتسريع وتيرة المشروع الصهيوني في فلسطين، بالأخصّ وأن الشركات الصهيونية أكثر زبائن البطريركية شهيةً وقدرةً على الشراء، ومن ثمّ فلم يكن من الممكن السماح للدائنين بمصادرة الأراضي. ومن جهةٍ أخرى، تعيّن على سلطات الانتداب البتّ في صراع الرعية العربية مع البطريركية اليونانية بما يوحي بالحياد، بهدف تشتيت المخاوف العربية بشأن إقامة وطنٍ قوميّ لليهود في فلسطين عقب إعلان بلفور، وإن كانت على علمٍ بأنَّ صراع الرعية من أجل تعريب البطريركية يصبّ في قلب الصراع الوطني الفلسطيني الأوسع من أجل التحرر والاستقلال. بالإضافة إلى أن تغيير الوضع القائم من هيمنة للبطريركية اليونانية على الأرثذوكس العرب كان ليضع المزاعم البريطانية بتحرير البلاد من نير العثمانيين "البرابرة" موضع تساؤل، والعثمانيون هم الذين كفلوا للبطريركية سيطرتها قرونًا من الزمن.

قبل مزيد من التوغّل في طريقة تعامل الانتداب البريطاني مع قضية متعددة الأبعاد مثل قضية البطريركية اليونانية لا بدّ من لفت النظر إلى البنية القانونية والسياسية التي حكمت فلسطين عمومًا، والقدس بشكل خاص، خلال سنوات تسوية الدَّيْن (1920-1939). فمن جهة كان المندوب السامي على فلسطين هو اليهودي والصهيوني المتحمس السير هربرت صموئيل (1920-1925)، الذي وضع نصب عينيه تشجيع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكان يعتقد أنَّ التعايش بين اليهود والعرب في طور الممكن، بينما شغل منصب المدّعي العام رجل القانون الصهيوني نورمان بينتويتش، الذي كان مندوب بريطانيا إلى المؤتمرات الصهيونية السنوية في الفترة ما بين (1907-1912) وزار فلسطين لأول مرةٍ في حياته عام 1908. ثم انتهى به المطاف للعمل مدّعيًا عامًّا في فلسطين حتى العام 1931 بعد تأدية الخدمة العسكرية في فيلق "الجمال البريطاني" بمصر بين الأعوام (1916-1919) حيث قُلّد بأرفع الأوسمة، لعب بينتويتش دورًا رئيسيًا في تطوير القانون الفلسطيني تحت الانتداب، حيث "ركّز جهوده على تزويد فلسطين الانتدابية بمجموعة من القوانين التجارية الحديثة التي يعتقد أنها ستسهل التنمية الاقتصادية، ومن ثمّ تجتذب المزيد من الهجرة اليهودية".[4]

تعرّض بينتويتش لمحاولة اغتيال على يد فتى فلسطيني يدعى عبد الغني طابق (17 عامًا)، يعمل ضمن قوات الشرطة البريطانية، وسيزوره السير روبرت لوك في مستشفى هداسا لاحقًا. [5]

نورمان دي ماتوس بنتويتش

نورمان دي ماتوس بنتويتش المدعي العام في فلسطين فترة الانتداب البريطاني

 

لجنتا "برترام-لوك" و"لوك-يونغ"

ضمن هذا الإطار الاستعماري قررت الحكومة تأسيس لجنة لتسوية ديْن البطريركية سمّيت أولا بلجنة "برترام-لوك" ثم حُلّت وأسس بدلًا منها لجنة "لوك يونغ"، التي رأت ضرورة تأسيس "اللجنة المالية" بهدف تصفية ديون البطريركية. وباشرت عملها منذ الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1921، وتألّفت من خمسة أعضاء أبرزهم إلياس مشبّك الذي كان أول عربي من أبناء الرعية الأرثذوكسيّة يتقلّد منصبًا لإدارةِ الشؤون الماليّة للبطريركية اليونانية، وهاري تشارلز لوك الذي عُيّن سابقًا في منصب مساعد حاكم القدس، وجون بارون في منصب المخمّن المالي، بالإضافة إلى شخصيّتين تنوبانِ عن البطريركية اليونانية، وفوقهُم عُيّن عطا الله منطورة في منصب المراقب العام المؤقّت لأعمال اللجنة، لفتةً رمزية من البريطانيين[6]. لكنّ داميانوس والمجلس المقدّس قابلا عمل اللجنة بالعرقلة المستمرة ممّا دفع بريطانيا إلى تغيير توليفتها في بدايات العام 1924، بثلاثة أشخاص هم جيلبرت برايتون وروبرت درايتون اللذين لم يكونا متفرّغين، بالإضافة إلى جون يونغ مع إلياس مشبّك، في حين ظلّت مقاعد ممثلي البطريركية فارغةً احتجاجًا على طريقة عمل اللجنة ومشاركة العرب فيها.

ومن جهة أخرى، دخلت اللجنة في صدامات متكررة مع داميانوس والمجلس المقدّس بسبب المصروفات غير المبررة للبطريركية، ومنها مجموعة من الصلبان المرصّعة بالألماس المهداة للملك اليوناني قسطنطينوس الأول، بالإضافة إلى التخلّف عن دفع رسوم الإيجار للكنيسة الأرمينية، وإصرار داميانوس على تسلّم عوائد مبيعات البطريركية في جزيرة خيوس اليونانية لحسابه الشخصي، وإدارة التبرّعات التي تحصل عليها البطريركية من الخارج بنفسه، وبيع 1214 دونمًا من العقارات المهمة للبطريركية اليونانية شمال أثينا مقابل 1000 جنيه استرليني في ذلك الوقت، وهو مبلغٌ أقل بكثير من قيمتها الفعلية، بالإضافة إلى قيامه ببيع عقارات للبطريركية في بيت لحم بثلث قيمتها الأصلية، وما أُشيع عن تفاوضه سرًّا لبيع أوقاف البطريركيّة في جزيرة كريت بثمن بخس، وتجديد رسوم الإيجار في عدد من العقارات بأسعار مخفّضة مقابل دفعة مسبقة عاجلة من المال لصالح استخدامه الشخصيّ. 

 

أبرز البيوعات للصندوق القومي اليهودي

خلُصت اللجنة إلى ضرورة البيع الفوري لعدد من الأراضي والأصول بهدف تغطية النفقات الأساسية لـ 1900 عضو ومؤسسةً يتبعون البطريركية في ذلك الوقت، وكان أكثر الزبائن شهيةً وقابلية للشراء الصندوق القومي اليهودي وذراعه المعمارية "شركة فلسطين اليهودية لتطوير الأراضي" (PLCD). وهكذا بيعت الدفعة الأولى من الأراضي في سبعِ مناطق مختلفة من القدس وضواحيها للصندوق القومي اليهودي، وهي:

 

جنزير التحتا (جنزاريا/ نيكوفوريا)

جنزير الفوقا (جنزاريا/ نيكوفوريا)

مرج شربي ومرج سرقي (غير معروف)

صفرا (صور باهر)

بُرَّاص (منطقة شارع رقم (1))

أنتيموس (حديقة قرب باب الخليل)

أنتيخوس (غير معروف)

 

بلغت المساحة الإجمالية لهذه الأراضي حوالي 300 دونم، وبيعت مقابل 206,115 جنيهًا إسترلينيًا تُسدّد على دفعات بتواريخ محددة.

على مدار السنوات (1921-1936) بيعت مساحات إضافية خارج أسوار البلدة القديمة، مثل: جادة الملك جورج وشارع الملك داوود وحيّ رحافيا، بشروط مذلّة جدًّا. وفي ضوء ذلك اتهمت البطريركية اللجنة بسوء الإدارة وطالبت بسحب صلاحياتها. بجانب أنَّ اللجنة كانت مسؤولة عن تسليم أراضٍ تمتلكها البطريركية إلى بلدية القدس الانتدابية دونما تعويض، بهدف بناء طرقات وشوارع جديدة في جادة الملك جورج وطريق الطالبية، والعمل على توسعة الشوارع الموجود سلفًا، عملًا بالاستراتيجية التي وضعها المدعي العام نورمان نورويتش، والتي تهدف إلى توسيع موطئ القدم الصهيونية في البلاد، ومن هذه الشوارع: طريق نيكوفوريّة الغربية، وطريق بركة السلطان، وطريق الحريريّة، وطريق جنزير التحتا (ربما كانت تحويرًا لجنزاريا).

وصل السعر الإجمالي للأراضي التي استولت عليها بريطانيا من البطريركية إلى ما قيمته 30,176 جنيهًا إسترلينيًا خلال الثلاثينيات، بالإضافة إلى 122 دونمًا أجّرتها البطريركية إيجارًا طويل الأمد قرب حي رحافيا للصندوق القومي اليهودي، مع 67 دونمًا من أراضي مأمن الله أو ما يعرف حاليا بحيّ ماميلا التجاري وشارع "بن يهودا"، كما أطلقت عليه بلدية الاحتلال فيما بعد.

بعد صدور قرار تقسيم فلسطين في العام 1947، وتحت ما تدعّي البطريركية أنه ضغوط وتهديدات مصادرة الأراضي بصفتها "أملاك غائبين" أجّرت البطريركية 509 دونمات إضافيةً قرب طريق الطالبية في حي رحافيا للصندوق القومي اليهودي بقيمةٍ هي أقل بكثير من سعر السوق. [7]

أسست مرحلة البيع للصندوق القومي اليهودي وشركات تطوير العقارات الصهيونية الأخرى خلال فترة الانتداب البريطاني، لعلاقة طويلة من الشراكة المتبادلة بين البطريركية والاحتلال الاسرائيلي بعد العام 1948، عبر استمرار النمط ذاته من التأجير طويل الأمد بأسعارٍ هي أقلّ بكثير من القيمة الفعلية، مقابل دفعةٍ مقدّمة عاجلة من الأموال لا تفصح البطريركيّة عن كيفية إنفاقها، والتي تحوم الشكوك حول إساءة استخدام البطاركة لها في الإنفاق الشخصي. إلى جانب استخدام الذريعة ذاتها في تبرير عمليات البيع، ألا وهي الخوف من استيلاء الحكومة الاسرائيلية عبر الاستيلاء عليها دون عائد ماديّ.