المحكمة الجنائية الدولية: هل تساوي بين الضحية والجلاد؟

المحكمة الجنائية الدولية: هل تساوي بين الضحية والجلاد؟
تحميل المادة

أوصى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، في أول خطوة تاريخية بالفعل منذ تأسيسها في عام 2002، بأوامر اعتقال ضد اثنين من كبار المسؤولين الإسرائيليين؛ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وثلاثة من قادة حماس البارزين.

وكما هو متوقع، ندد كلا الجانبين بهذا الإجراء للمحكمة الجنائية الدولية بأقوى لغة ممكنة. وبسبب تحيز وسائل الإعلام الغربية، هيمنت ردود الفعل الغاضبة من إسرائيل وحلفائها على وتيرة الأخبار، بينما تم تجاهل التصريح الرسمي من حماس إلى حد كبير.

إن اعتراض إسرائيل الأساسي على إجراء المدعي العام يكمن في المساواة المفروضة مع حماس التي بادرت بالهجوم في 7 أكتوبر، بينما حكومة إسرائيل المنتخبة ديمقراطياً تقول إنها دافعت عن نفسها واستعادت أمن سكانها. كما تشعر حماس ومؤيديها أيضا بالذعر من المساواة التي ينطوي عليها الدعوة إلى إصدار مذكرات اعتقال، والتي "تساوي الضحية بالجلاد" في سياق الاحتلال الإسرائيلي القمعي، ما يؤكد الحقوق القانونية الفلسطينية في المقاومة بما في ذلك اللجوء إلى الكفاح المسلح.

إن الرد الإسرائيلي كلام فارغ وجدالي، ذلك في ما يتعلق بأن إسرائيل وقادتها لا يمكن أبدًا اتهامهم بالإجرام في سياق تشكّل ما حدث في 7 أكتوبر، والذي  اعتُبر أسوأ هجوم على الشعب اليهودي منذ الهولوكوست. ووصف نتنياهو التوصية بإصدار مذكرات اعتقال بأنها "إهانة أخلاقية ذات أبعاد تاريخية"، و"مهزلة للعدالة"، وتشكل "سابقة خطيرة" تتدخل في حق الدول الديمقراطية في الدفاع عن نفسها.

 

الافتقار إلى الدفاع

إن ما يفتقر إليه الرد الإسرائيلي هو أي دفاع ضد محددات السلوك الإسرائيلي، والذي يُنظر إليه في جميع أنحاء العالم على أنه يصل إلى حد الإبادة الجماعية، وكما يتضح من الاحتجاجات المتزايدة حتى في الولايات المتحدة، الداعم الأكثر ثباتًا لإسرائيل.

وتُحدد الجرائم والأدلة بلغة القانون، وهي بالتأكيد ذات حجم وخطورة؛ إذ تتطلب ردًا حقيقيًا وصادقًا من إسرائيل، ولا شيء أقل من ذلك يمكن أن يقنع الرأي العالمي بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تجاوز صلاحياته باقتراح إصدار مذكرات اعتقال.

ومن المهم العودة إلى قرار محكمة العدل الدولية على وجه الخصوص؛ في ما يتعلق بالتدبير المؤقت شبه المجمع عليه في يناير، كإثبات على أن التهم الموجهة إلى قادة إسرائيل ليست تقريبًا وصمة عار أو سابقة خطيرة. يعطي هذا الحكم أساسًا متينًا، وإن كان مؤقتًا، للاعتقاد بأن عنف إسرائيل بعد 7 أكتوبر يشكل مثالًا مؤسفًا على الإبادة الجماعية المستمرة التي تستهدف جميع السكان المدنيين في غزة.

بدرجة أقل بكثير، ينطبق ذات النقد على رد حماس، على الرغم من أنه كان ينبغي للمدعي العام معالجة سياق الاحتلال الطويل والتعسفي، والإيذاء في انتهاك القانون الدولي والإنساني، إلا أن هذا لا يمنح حصانة على مثل التجاوزات الجنائية التي ارتكبت في 7 أكتوبر.

إن الدعوة إلى إصدار مذكرات اعتقال ضد قادة حماس مشكوك فيها؛ بسبب غياب تحقيق دولي محايد حتى الآن حول ما حدث بالفعل في 7 أكتوبر، وبسبب غياب أدلة على أن قادة حماس، بعكس كيانات المقاومة الفلسطينية الأخرى مثل الجهاد الإسلامي، قد تم تمييزهم جيدًا.

لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن الولايات المتحدة قفزت للدفاع عن إسرائيل، بالانضمام إلى هجوم طائش إلى حد ما على مصداقية هذه المحكمة الدولية القائمة على المعاهدات، والتي لديها تفويض بالتحقيق واتخاذ إجراء ضد مرتكبي الجرائم الدولية.  وبالرغم من أن المسؤولين الأمريكيين يشتكون الآن من العقبات القضائية التي تحول دون توجيه الاتهام إلى مواطني الدول التي ليست طرفًا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إلا أن واشنطن أيدت بحماسة لائحة الاتهام المتسرعة التي وجهتها المحكمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد فترة وجيزة من غزو أوكرانيا عام 2022. تُظهر هذه المعايير المزدوجة النفاق الأخلاقي والعدمية القانونية؛ إذ تتذرع الولايات المتحدة بالإجراءات الدولية كأدوات لسياستها الخارجية بدلاً من المبادئ المطبقة عالميًا.

 

تصريح بلا صلة

في عبارة لافتة للنظر، كان يمكن أن تصدر من الحكومة الإسرائيلية، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم الاثنين "مهما كان ما يعنيه هذا المدعي العام، لا يوجد تكافؤ، مطلقًا، بين إسرائيل وحماس". لقد دعم بهذا التصريح الذي لا علاقة له بالناحية القانونية بالتأكيد القاطع على أن "سنقف [الولايات المتحدة] دائمًا مع إسرائيل ضد التهديدات لأمنها".

مرة أخرى، هذا لا علاقة له. والسؤال الوحيد هو ما إذا كانت الأدلة تدعم إصدار مذكرات اعتقال، وبإعادة التأكيد على مثل هذا الموقف أحادي الجانب، يعزز بايدن شكاوى المتظاهرين في كل مكان بأن واشنطن متواطئة في الإبادة الجماعية الأكثر شفافية والمنقولة في الوقت الراهن، وليس بأثر رجعي أو بشكل مجرد، كما كان الحال حتى مع الهولوكوست.

ومن المفارقات أن الخطاب الساخط الذي جاء في غير محله من إسرائيل وحلفائها، قد منح تصريحات المحكمة الجنائية الدولية أهمية لم تمتلكها المؤسسة من قبل.

وما خلف إشعال فتيل الجدال، يكمن جحيم حملة ضخمة من إرهاب الدولة التي برزت في البداية كقوة دفاعية وذات رد فعل رجعي، ولكنها سرعان ما أظهرت وجهها الحقيقي على أنها عنف متعمد وترحيل قسري للفلسطينيين في غزة، بعيدًا أكثر فأكثر عن المخاوف الأمنية الفعلية لإسرائيل.

كما وننسى أيضا في خضم الخلافات في الأشهر الأخيرة السياق الذي أرسته حكومة نتنياهو قبل هجوم حماس. حتى في الغرب، وصف هذا الائتلاف الحاكم بأنه الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل؛ ما حقق ذلك تمثل في الجهود العلنية لبدء حملة يقودها المستوطنون لجعل الحياة غير صالحة للعيش قدر الإمكان للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، والتي عبرت عنها رسالة وصلت بطرق مختلفة مفادها "غادر أو سنقتلك".

لقد أعطت الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك وزيرا الحكومة المتطرفان إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الضوء الأخضر لهذا العنف كجزء من هدفها ذي الأولوية المتمثل في إنشاء إسرائيل الكبرى أحادية الجانب، وإنهاء جميع التطلعات الفلسطينية لإقامة دولة أو أي شكل جاد من أشكال تقرير المصير.

 

إخفاقات متعددة

بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن إسرائيل تلقت تحذيرًا مسبقًا لهجوم حماس المخطط له والمتدرب عليه، وامتلكت قدرات رقابية وإخبارية دقيقة، وبالتالي؛ ردّت على الهجوم بعجز غير معهود، كل هذا يجعل من الصعب تصديق أن سيناريو الرد واسع النطاق لم يُتفق عليه بالفعل من قبل القيادة الإسرائيلية قبل احتجاز رهينة واحدة.

وعندما بدأ الانتقام الإسرائيلي، كان مشبعاً بشكل مباشر بأساليب ولغة الإبادة الجماعية، بما في ذلك سياسات لحرمان الفلسطينيين في غزة من الغذاء والوقود والكهرباء والمياه. وأكثر ما كشف عن ذلك عمليات التهجير القسري للفلسطينيين من شمال غزة إلى جنوبها، والهجمات الوحشية على المستشفيات والمراكز المأهولة، واستخدام المجاعة كسلاح حرب، والجهود الجارية لحث مصر ودول أخرى على قبول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين.

يبدو أن هذه الحملة المستمرة أصبحت مدمرة ذاتيًا بشكل متزايد من منظور الأمن الإسرائيلي. ويعتقد العديد من الإسرائيليين الآن أن قيادة نتنياهو مسؤولة عن إخفاقات متعددة؛ بما في ذلك تدمير حماس، وتحقيق العودة الآمنة للرهائن، والحفاظ على سمعة البلاد كدولة ذات سيادة شرعية.

أما قيادة بايدن فمن خلال موقفها بالدعم غير المشروط لإسرائيل، والتنديد غير المسؤول بالمحكمة الجنائية الدولية، فقد أدارت ظهرها لجيل الشباب، بإطلاق العنان لوحشية الشرطة والإجراءات العقابية ضد النشاط المؤيد للفلسطينيين. لقد كان من غير المسؤول تمامًا التظاهر بعدم وجود أساس قانوني لاتهامات الإبادة الجماعية الموجهة ضد إسرائيل، فقد أضر سلوكها في الأمم المتحدة بالقانون الدولي وبالطابع الأخلاقي للديمقراطيات الليبرالية.

وكذلك يستحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية النقد، إذ لا يوجد تكافؤ صائب بين الهجوم الذي حدث لمرة واحدة في 7 أكتوبر على الرغم من فظائعه، وحملة الموت والدمار الإسرائيلية المستمرة منذ سبعة أشهرفي غزة.

ومع مرور الوقت، أظن أن الفشل في تسمية "الإبادة الجماعية" سيعتبر أكثر نقاط الضعف الصادمة في البيان الرسمي للمدعي العام.

على أقل تقدير، كان يتوجب على خان أن يشرح؛ لماذا كان من السابق لأوانه قانونيًا إدراج هذا الادعاء الأكثر خطورة وانتشارًا ضد إسرائيل، ضمن أسباب التوصية بأن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فمن خلال التهرب من أي ذكر للإبادة الجماعية، يمكن اتهام خان بتجاهل الإبادة المرئية للجميع.

في هذه الأثناء، نأمل أن تقبل هيئة القضاة توصية المدعين العاميين، وأن تصدر أوامر ضد القادة الإسرائيليين وقادة حماس، مع بذل قصارى جهدها أيضًا لمحو فكرة التكافؤ. وإن التزمت المحكمة الجنائية الدولية بموقفها الأساسي القائم على المبدأ، فإنها ستعزز سمعتها كبعد من أبعاد الحوكمة العالمية التي لا يلطخها التحيزات الجيوسياسية.

 

الرابط الأصلي للمقال:

https://www.middleeasteye.net/opinion/war-gaza-icc-bid-arrest-warrants-bold-and-historic-move