اهتف رَدِّد عَليّ الصوت: لُغَة الهتافات وأسلوبها في المَسيرات الشّعبية

اهتف رَدِّد عَليّ الصوت: لُغَة الهتافات وأسلوبها في المَسيرات الشّعبية
تحميل المادة

 

إنَ مَعركَة الإبادة المَفتوحة للعدو تجاه الفلسطينين عُمومًا وأهل غزة خُصوصًا، وحرب العَدو على لبنان، تَستَوجب مُقاوَمَةً مُتنوّعَةً أُسلوبًَا وَشَكلًا، وإنّ الصّمود المقاومة الأسطوري على الأرض، يحتاج إلى إسنادٍ عربي فاعل بكل السّبل، ومن ذلك -بالحد الأدنى- الخروج إلى الميادين والسّاحات العامة للتظاهر والاعتصام والمشاركة في المسيرات، لأن فعل التظاهر هو فعل إسناد فاعل للمقاومة وعامل ضغط على الاحتلال وداعميه، وكما يقول المثل الشعبي: "الحُقوق بِدهَا حُلوق". وكان الشيخ أحمد ياسين -رحمه الله- قد نوّه ذات مَرَّةٍ لأهمية ذلك حين قال: (مظاهرة في القاهرة تُساوي عَمليّةً فدائية في تل أبيب).

 وقد كان للجماهير الشّعبية في بعض المدن الفلسطينية والعربية كلمتها الواضحة خلال الأشهر الماضية من معركة طوفان الأقصى، وذلك في الميادين العامة والشوارع الرئيسة وساحات الاعتصام، حيث استطاعت هذه المسيرات بأوقات مُتفاوتة تغيير المشهد وتحريك قضية الإسناد، وكانت هذه المظاهرات رغم الملاحقة ومحاولات التطويق والضبط تنجح في إيصال رسائلها المباشرة في دعم المقاومة والضغط على الأنظمة العربية، وتحريك جمود الرأي العالمي.

 

●                في معنى  الهتاف وَبُنيَتُه

   نَقولُ في اللغة: هَتف يَهتف هتفًا أو هتافًا والفاعِلُ هَاتِف، كَقولنا صَرَخَ يَصرُخُ صَرخًَا أو صراخًَا والفاعِلُ صَارِخ، ومثلها: نادى ينادي نِداءًَا والفاعل مُنادي. والأصل في معنى الهتاف: صَوت الصّياح المَمدود، ومنه صَوت صِياحِ الحَمام المَمدود، وَصوت الرّيح الحَنّانة، وَصوتُ السّحابِ كَثيرُ الرّعد، وَصوت القَوسِ المَرنّة، ثُمَّ قيلَ لِصَوتِ القَومِ العالي في الاستنكار وَلِصَوتِ القَوم في التّمجيد وَلِصَوتِ المُنادي المُرتَفِعْ: هتاف. 

 وإذا قُلنا هَتَفَ الرّجل فَنعني بِذلكَ: صَرخ أو صاح مادًّا صَوتَه، والهَتّافُ صيغَة مُبالَغةٍ، أي الرّجل كَثيرُ الهَتف (الصَيّاح). وَقد يُسمى الهاتِفُ أيضًا: القَوّال، أي الذي يَنظُمُ القَولَ وَيُعلي الصّوت بِه هتافًَا أو غِناءً، والهَتّافُ أو الهاتِفُ أو القَوّال هُوَ قائِدُ المَسيرة وَضابِطُ إيقاع مَشيها وَمَسيرِها، وَعلى عاتِقِه تَقَعُ مَسؤوليّة رَفعِ حَماسَتِها وَشجاعَتِها، وَلِذا يُرفَعُ على الأكتاف كي يعلو صوته وَيصل للجميع.

 والهتافات والصّيحاتُ في الغالب لها نَمَطٌ أو قالبٌ فَنّي حاو لها، ولذا تَجدها مَسجوعَةً مَنظومَةً بِشَكلٍ مُتناسِقْ، وَلُغَتُها شِعريَّةٌ، كَأنَّ الهتاف بَيتُ شِعرٍ مُكوّنٌ مِن شَطرَتين (صَدرٌ وَعجز)، ولهذه الهتافات إيقاعٌ وَجَرَسٌ مُغنّى كَالرَّدَّةِ الزجلي، أو هي نظمٌ نثريٌ مُنسَجِمٌ وَمُتناغِم، وَليسَ فيها نِهاياتٌ مَقطوشَة وَوقفاتٌ عَالِقَةٌ تَقطَعُ نَفَسَ النّاس أَثناءَ تَرديدِها، وَلأجَلِ ذلك فإنّها مَفهومَةٌ للجُمهور وإن بَدَت غَيرَ مُباشِرَةِ المَعنى، وَعلى العُمومِ فإنَّ غالبيّة الهتافات بَسيطَةٌ وَمِن السَّهل حِفظُها وَترديدُهَا.

والذي نَعرِفُه عن الهتافات إذا سَمِعنا هَذه الكَلِمَة، أنّه يُقصَدُ بها: صَوتُ الجَماهير العالي وصياحها الصّارِخِ في المُظاهَرات والاحتجاجات بِكَلِماتٍ مَسموعَةٍ مَسجوعَةٍ، تَتردَّد تَمجيدًا أو رَفضًَا أو إعلانًَا عَن مَوقِفٍ أو تَعبيرًا عَن رَأيٍ ما، على أن يكون ذلك في الأماكن المَفتوحة والعامّة، إذ لا معنى للهتاف والمسيرة بغيّر الفَضاءِ العام.

 

●                مضمون الهتاف وشخصية الهاتف

    إنّ مَضمونَ الهتاف أساسُ قُوَّتِه وَشُيوعِه وَسببُ تَداوُلِه، وَلِذا تَجِدُ فَرقًَا في التَّفاعُل مَع هتافٍ دُونَ آخر، وَالمَضمونُ غالِبًَا مُرتَبِطٌ بالحَدَثِ وَسياقِ المُظاهَرة وَطبيعَةِ المُشاركين، لِذا يُمكنُنا قِراءَةُ مِزاجِ الجُمهورِ وَنَفَسُهُ مِن التّفاعُلِ مَع الهتافات وَأوقاتِ هذه التّفاعُلاتِ وَسياقاتِها.

 وتتأثرُ هذه الهتافات بِبَعضِها البَعض، وَتنتَقِلُ مِن مَكانٍ لآخر، وَتطيرُ من لِسانِ قائِلٍ لأذُنِ مُستَمِع، ويُبتكر ويُطور فيها اعتمادًَا على مَهارَةِ وإبداعِ الهَتّاف\القَوّال، وَليسَ للهتافاتِ بالعادَة جِهَةٌ أو إطارٌ يُنتِجُها أَو يُكثّفُ رِسالَتها، وإنّمَا تَعتَمِدُ على مَهارَةِ وَذكاءِ الأفرادِ المُشاركين في المَسيراتِ والذينَ يُصبِحونَ جُزءًَا مِن المُظاهرات، فَتَنْصَقِلُ مهاراتُهم وَتتطور مَع كَثرَةِ المُظاهرات التي يُشارِكونَ بِها، أَو يَكونَ لأحدِهِم حِسٌ شِعريٌ وَنَفَسٌ زَجلي فَتراهُ يُبدِعُ بالهتاف على السّليقَةِ مِن غَيرِ تَكلّفٍ أو عَناءٍ. 

 وإنّ شَخصيّة الهَتّاف\القوّال وّخلفيَّتَه الثّقافيّة وَدافِعَه الوَطني مُهمٌّ لِفَهمِ رِسالته ومضمون هُتافه، خُصوصًَا إذا كان يَبتَكِرُ وَيُجدّد ولا يُعيدُ قَولَ المَألوفِ والدّارِج. والشّخصيّة هُنا مُتّصِلَةٌ بِصَوتِه، وارتفاعُ حِسِّه وَوضوحُ كَلماتِه وَمِقدارِ حَماسَتِه، ثُمّ مَضمونُ هتافه المُبتَكر ومُحاكاته للواقِعِ بِذَكاء. وَأَهمُّ مِن ذلك صَلابَةُ شَخصيته وَتحدّيه للواقِع، وَجُرأَتُه على القَولِ دُونَ خَوفٍ أو تردد.

 

●      الهتاف كَوثيقة تؤرخ للمرحلة

إنّ التّتبع الدّقيق لِمَضونِ الهتافات التي رُددت في مَسيرات التّضامن مع غزة يجدها مُنْبِئَةً عَن وَثيقَةٍ بالِغَةِ الأَهميّة تاريخيًّا، إذْ في هذه الصيحات الشّعبية والأقوال المَنظومة بلحن مُغنّى دَلالَةٌ الزّمانِ وَتوثيقُ المَكان، وَذِكرٌ لِطَبيعَةِ الأحداث وَالفِعلِ وَالفاعِليّة، وَيَحضُرُ فيها الشّخوص وَالرّموزُ وَالأبطال، وَهي مُؤشّرٌ على حَياةِ الجَماهيرِ وانتسابهم لِقَضيّة حَيّة خَرجوا لأجلها صارخين وَمُعبّرين عَن مَشاعِرهم وَمواقِفِهم. وَلِأَجلِ ذلك فإن تَوثيقها على اختلافها سياقًا ومكانًا، والاهتمام برصدها وتسجيلها على تنوعها يتجاوز دور التغطية الصحفية وجهد الإعلام.

  ومن خلال تجربتي في توثيق الهتافات أجد أنَّ سِرّ نجاح المُظاهرات خِلالَ مَعرَكَةِ طوفان الأقصى، كان ما قالته الجماهير من هتافات بلغيةٍ عبّرت عن المَشاعر المكبوتَةِ حتى لأولئك الجالسين خلف الشّاشات، وَقد يَكونُ أَبرزُ تِلكَ الهتافات وأَقواها ما قالَتهُ الجَماهيرُ الأردنيّة خِلال سَنَةٍ مِنَ التّضامُنِ الجدّي مَع غَزّة بِلا كَلَلٍ أو مَلَل، حيث كانت السّمة العامة لهتافات عّمان وجماهير الأردن "الابتكار والتّجديد"، في ما كانت السِّمَة العامة لغيرها من المظاهرات "التكرار والتقليد".

وَمِن خِلالِ رَصدِ عَشراتِ المُظاهراتِ وَتوثيقها في أكثر من مدينة يُمكُنني القَولُ بأنّ المُظاهرات تَميّزت بِصفاتٍ جامِعَةٍ وكان لَها جُملَةٌ مِن الخِصالِ المُشتَركَة، وَمنها مَثلًا:

-  الهتاف في المسيرات تجاوز البُعد التنظيمي والقبلي وتجاوز فكرة الحٌدود السياسية، وعبّر عن حالة عامة تستدعي الالتفاف حولها والتفاعل معها، ولذا يهتف غير المنتمي سياسيًا لحركات المُقاومة ومقاتليها وَيمتَدح قادتهم، فالهتاف هُنا تَعبيرٌ عن حَجم التّفاعل والحضور لِبُعد المقاومة الذي تناصره الجماهير، وليس تعبيرًا عن الانتماء العضوي لهذه القوى المُقاومة.

 - اتخذت هتافات طوفان الأقصى صِفةً وحدوية في أكثر الأحيان، وامتزج الديني بالوَطني في التظاهرات الحاشدة، وكانت صيغة الهتافات واضحة في انحيازها المُطلق للمقاومة وَرفضها لخيار السلام ومسار التّسوية السّياسيّة.

 - منذ الأيام الأولى لمعركة الطّوفان أصبحَ تَقليدًَا أن يَخرُجَ النّاسُ في مُظاهَراتٍ وَخُصوصًَا يَومَ الجُمعَة، وَفي الأسابيع الأولى من المعركة كانت المظاهرات دائِمَةً بِدعواتٍ من التّنظيمات والقُوى الفَاعِلَة، وَخُصوصًا بَعدَ صَلاةِ العِشاء قَبل أن يَتمّ التضييق على كَثيرٍ مِنَ النّشطاء، وقبل أن تُقمَعَ هذه المُظاهرات وَيُعتَقَل بعض المُشاركين فيها.

- عكست المظاهرات التَنوع في الطّبقات الاجتماعية والفئات العُمرية المُشاركة، وإن كانت غَلَبَةُ المشاركة في المسيرات للنساء، كما تقول الصّور والفيديوهات والرصد الأولي لهذه المظاهرات.

 وعليه؛ سَنسعى سَويّة في هذه السّلسِلة من المقالات للتعرف على تطور لغة الهتافات وتجددها، وذلك من خلال مقارنتها بمثيلاتها المختلفة زمانًا ومكانًا، فالزّمان سنذهب به لأول المظاهرات السياسية في فلسطين بداية من عشرينات القرن الماضي، والمكان سيكون المقارنة بين نموذجين أساسيين هما: مظاهرات عمان ورام الله.