بدو وادي السيق.. جريمة الاقتلاع بصمت

بدو وادي السيق.. جريمة الاقتلاع بصمت
تحميل المادة

في الثاني عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023 هُجرت أربعون عائلة بدوية من تجمع  وادي السيق شرق مدينة رام الله تاركين خيامهم وممتلكاتهم، مُجبَرين على الابتعاد عنها سيرًا على الأقدام ويدفعون أغنامهم أمامهم، وذلك تحت وطأة الهجوم من قبل المُستعمرين، مع مُهلة ضيقة منحهم إياها جيش الاحتلال للمغادرة، حيث أجبروا على اللجوء مجددًا إلى قرية الطيبة شرق رام الله، ومن هناك تشردوا مجددًا وتوزعوا على عدّة بلدات فلسطينية في نكبة جديدة وجريمة تهجير قسري مُدانة.

  وبعد عدّة أيام من هذه الجريمة سمح جيش الاحتلال لبعض البدو المُهجرين من العودة سَريعًا ولمدّة ثلاثة ساعات فقط، لأخذ أمتعتهم وخيامهم وبعض مُمتلكاتهم وذلك بوجود جيش الاحتلال وشرطته، على أن لا يعودوا لهذا التجمع الذي انتهى زمن الوجود العربي فيه كما صرّح المُستعمرين يومها.

  شَرارة التنفيذ بعد اكتمال الخُطة

   مع انشغال العالم بـالعدوان الصهيوأمريكي على قطاع غزة، ومع إعلان الحرب المفتوحة على الوجود الفلسطيني، واستخدام الأسلحة المُحرمة دوليًا وارتكاب جيش الاحتلال أفضع المجازر الدموية، سارع المُستعمرون الصهاينة في الضفة الغربية لاستغلال الحرب لأجل طرد الفلسطينيين وإخلاء الأراضي التي تُقام عليها تجمعاتهم البدوية، وذلك في مناطق شهدت مُواجهات وصراعات البقاء منذ سنوات، وقد هُجرت واقتُلعت ثمانية تجمعات هي: تجمع وادي السيق البدوي شرق مدينة رام الله، وتجمع عين الرشاش شمال شرق رام الله، وتجمع عين الزراعة شمال شرق نابلس، وتجمع عرب الكعابنة في المعرجات الوسطى، بالإضافة إلى تهجير أربعة تجمعات بدوية في منطقة مسافر يطا جنوب الخليل. وقبل ذلك بأشهر أجبرت تجمعات رعوية فلسطينية أخرى على الرحيل والتهجير ومنها تجمّعا: إفجم و المناخير شرق بلدة عقربا، وتجمّعا: بدو عين سامية وراس التين شمال شرق رام الله.

   والمُخيف في جرائم التهجير القسري الأخيرة أنها تمت بهدوء ودون ضجة إعلامية أو ملاحقة قانونية للاحتلال، لأنه تجاوز بجرائمه في غزة كل الخطوط الحمراء وضرب بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية، ومع الغطاء الأمريكي والأوروبي لهذا الاحتلال وجد القدرة على اقتلاع الفلسطينيين وطردهم دون القلق من عواقب جريمته المُدانة دوليًا وقانونيًا وانسانيًا، مُستغلًا تركيز التغطية الاعلامية على ما يجري في غزة لتغيير الواقع بالضفة الغربية وفق تصوره ورؤيته وبما يخدم المشاريع الاستعمارية لحكومة اليمين المُتطرفة.

 ما جرى في هذه التجمعات عمومًا وتجمع وادي السيق خُصوصًا لم يكن ردّة فعل أو عُدوان طارئ خارج سياسة الدولة ومؤسساتها الاستعمارية، ذلك أن هذه التجمعات كانت تخوض حربَ بقاءٍ شَرسة في السنوات الأخيرة، وتعرضت لسلسلة اعتداءات مُمنهجة من قبل المُستعمرين الرّعاة وجيش الاحتلال وسكان المُستعمرات المحيطة بهم. وقد خاض سكان هذه التجمعات حربًا حقيقية منذ بداية عام 2023 لأجل البقاء في هذه التجمعات، معتمدين على المسار القانوني ومحاولات الصمود المدعومة بالتضامن وخلق مقومات البقاء التي سعت لها هيئة مقاومة الجدار والاستيطان والمؤسسات ذات العلاقة؛ إذ حاولت تعزيز صمودهم على الأرض.

 لكنّ حجم الاعتداءات وتكثّفها وتواصلها اليومي، مع الانشغال بالحرب على غزة كان عاملًا حاسمًا في دفع الأهالي في هذه التجمعات على مُغادرتها والرحيل عنها، فقد رُحلت بالقوة وتحت التهديد المُباشر بالقتل والموت، ولم يكن أمامها خيارٌ؛ إذ استسلمت لقدرها ونفاد أدوات نضالها وصمودها.

  فصلٌ في مشهد الجريمة المُستمرة

  بحسب شهادات البدو التي وثقتها قبل شهر من تهجير تجمعهم البدوي في وادي السيق، فإن  البدايات الأولى لوجود هذا التجمع المُستقر كانت قبل نحو أربعين عامًا، حيث بدأ البدو في الاستقرار على جانبي وادي السيق شرق بلدة دير دبوان في العام 1985م، بعد أن أجبرهم جيش الاحتلال على ترك الأغوار والمناطق الشرقية تحت حجج أنها مناطق تدريب عسكري، ما دفعهم للإقامة في هذه المنطقة التي اعتبرها جيش الاحتلال في حينه خارج حدود المناطق العسكرية. فنشأ في البداية تجمع للبدو في "مغاير دير وادي السيق الأثري" وتحديدًا جنوب وادي السيق، وثم نشأ تجمع بدوي آخر غرب وادي السيق (غرب شارع آلون الاستعماري)، ثم شَرَعَ البدو وأصحاب الأغنام من الفلاحين بالتجمع والتركز في شمال وادي السيق في موقع التجمع الحالي والذي أُخلي قسريًا، وقد بلغ عدد العائلات المُستقرة في التجمع حتى سبتمبر 2023 أربعون عائلة.

   بدأت موجة الاعتداء المسعور على تجمع بدو وادي السيق شرق بلدة دير دبوان منذ العام 2016 ضمن سلسلة الاعتداءات التي طالت التجمعات البدوية\الرعوية في الأغوار وشفا الغور وعموم مناطق "ج" في الضفة الغربية. حيث بدأت دولة الاحتلال تلاحقهم بإخطارات وقف البناء،  وقرارات الملاحقة وأوامر وضع اليد، ثم بدأت أجهزة دولة الاحتلال ترصد التجمع من خلال التصوير الجوي والميداني، وفي المحصلة تسلم الأهالي إخطارات بكل أبنية التجمع ومنشآته بما في ذلك المدرسة.

  وإكمالًا لسياسات الاحتلال في التضييق على التجمع البدو لوحق الرّعاة ومنعوا من الرعي شرق التجمع باعتباره منطقة عسكرية، ثم منعوا من الرعي جنوبًا في وادي السيق باعتباره محمية طبيعية، ثمّ منعوا من الرّعي شمال التجمع البدوي لوجود عدّة بؤر استعمارية وفوق ذلك منعوا من حفر آبار أو مد خط مياه، أو ترميم أيٍّ من الآبار القديمة في المنطقة.

 ومع انتشار ظاهرة الاستعمار الرعوي وظاهرة عصابات تدفيع الثمن وفتية التلال الصهاينة، بدأت حياة الأهالي في تجمع بدو وادي السيق وبدو السفوح الشرقية وشفا الغور تتغير، حيث بدأت موجة من الاعتداءات تلاحقهم وتضييق حياتهم، وتحد من المساحات التي يُسمح لهم بالوجود بها.

  حيث تصاعدت خلال هذه الفترة هجمات البؤر الاستعمارية على التجمعات البدوية وعلى أطراف القرى الفلسطينية القريبة من مناطق (ج)، لتشمل سرقة الأغنام وتخريب الممتلكات وتقطيع الأشجار، وحرق البيوت، وتكسير السيارات، وكتابة الشعارات العنصرية، ومصادرة عيون وآبار الماء، ومنع الرعي في مناطق كثيرة.

  وبحسب شهادات البدو الذين التقيت بهم  في تجمع وادي السيق قبل شهر من تهجيرهم بتاريخ 12 أكتوبر/ تشرين أول؛ فإن السنوات الخمسة الماضية كانت الأكثر رُعبًا على حياتهم وأمنهم، وصار عليهم الانتباه طوال الوقت تجنبًا لاعتداءات المستوطنين التي لا تتوقف ليلًا أو نهارًا، حتى إن طلبة المدرسة صار لديهم رعب اسمه: "المستوطنين أجوا، المستوطنين بدهم يحرقوا المدرسة".

 لكن التحدي الأخطر على تجمع وادي السيق كان في 20 شباط/ فبراير 2023، إذ أقام أحد المستعمرين نواة بؤرة رعوية مقابل التجمع البدوي، وقد نقلها من موقعه السابق جنوب مستعمرة رومنيم، إلى وسط منطقة السهل المملوك لأهالي قرية دير دبوان بالقرب من تجمع وادي السيق البدوي، ليتبين لاحقًا بأن هذه القطعة بالذات هي خزينة دولة، وعليه، فلا يستطيع الأهالي إخراجه منها بأي حجة قانونية، فعمد الأهالي مع البدو لعمل وقفات شعبية رفضًا لسرقة الأرض، لكن جيش الاحتلال بادر لقمعها بالقوة والنار، تاركًا الميدان لهذا المُستعمر كي يتمدد ويسيطر على الأرض.

  وفي الأشهر الأخيرة صار هناك وضوح في طبيعة التحدي الذي فرضه وجود البؤرة الاستعمارية الرعوية باعتباره شكلًا من أشكال الاستعمار النشط، إذ كثّفوا من اعتداءاتهم على المدرسة تحديدًا باعتبارها أهم معالم التجمع البدوي، فهوجمت المدرسة أكثر من مرة وأنزل العلم الفلسطيني عنها، وسرق المستعمرون (بطاريات) الخلايا الشمسية ومولد الماء، وسرقت المعدات من المستودع وعطلوا الكاميرات، وركزوا وجودهم بالأغنام أمام المدرسة وبالقرب من البيوت لاستفزاز الأهالي، وعند أي محاولة لإبعادهم والتصدي لهم يتدخل الجيش وشرطة الاحتلال، ويعتقل البدو والاعتداء عليهم كما حدث في نهاية شهر آب/ أغسطس 2023م، من اعتداء على البدو واعتقالهم لأنهم دافعوا عن أنفسهم.

  وخلال شهر أيلول/ سبتمبر 2023 لم تتوقف الاعتداءات على أهالي التجمع البدوي، وضيقت الحياة عليهم، ولم تسلم المدرسة وطلابها من هذه الاعتداءات، وصار الوجود في التجمع قلق يومي وتحدٍ وجودي، وبحسب الأهالي فقد أصبح النوم محرمًا عليهم ليلًا خوفًا من إحراق البيوت عليهم أثناء نومهم، لكن إرادة الأهالي ظلت تُقاوم الاقتلاع والتهجير وترفضة. لكن بعد السابع من أكتوبر استشرس المُستعمرون في عدوانهم ومهاجمة التجمعات البدوية في الغور ومناطق "ج" عمومًا، ولم يسلم تجمع وادي السيق من هذا الرعب، فتمت مهاجمتهم وأجبروا على الرحيل والمُغادرة وترك بيوتهم ومحل إقامتهم منذ 40 عامًا.

وعليه فإن تجمع وادي السيق البدوي، كان آخر مكان يُمكن للبدو الاستقرار فيه بعد ملاحقتهم واقتلاعهم من بلادهم في بئر السبع عام 1948، ثم طردهم من الأغوار والمناطق الشرقية من الضفة الغربية بين سنوات 1967-1985م، وبتهجير هذا التجمع وإجبار البدو على مُغادرته، يُكتب فصل جديد في نكبتنا المُستمرة مُنذ العام 1948م، إذ لم تتوقف أعمال التهجير والمُلاحقة والاقتلاع لكل ما هو فلسطيني من قبل جيش الاحتلال منذ 75 عامًا.