لهذا تضحي أوروبا بالفلسطينيين... فماذا عن تاريخها الأسود؟

لهذا تضحي أوروبا بالفلسطينيين... فماذا عن تاريخها الأسود؟
تحميل المادة

يقول فرانز فانون في عام 1961 إن "الثراء الأوروبي فضيحة، بُني على ظهور العبيد، ويتغذى على دمائهم، ويعود وجوده إلى استغلال خيرات العالم النامي". وأشار إلى أن " رفاهية أوروبا وتقدمها بُني بعرق ورفات السود والعرب والهنود والآسيويين، وهي حقيقة نحن مصرين على ألا ننساها أبدًا". منذ القرن الخامس عشر، الذي عُرف بالحملات الاستعمارية النظامية التي قادتها قوى مثل إسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا، فرضت أوروبا باستمرار تحديات على مستعمراتها السابقة. ويتسع الخطاب عن تاريخ ومنطلق دوافع الاستعمار وعواقبه لأبعاد دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ليمتد إلى ما هو أبعد من مجرد استغلال للموارد في يومنا هذا. لقد نجحت أوروبا في التلاعب بالذنب المتعلق بتاريخها الإشكالي بإبراز عقليتها التمييزية لاتهام ضحاياها بسلوك إجرامي مزعوم.

إن الوصمة الإجرامية المستمرة والمنبثقة عن الماضي المضطرب لأوروبا الاستعمارية، بسماتها القائمة على تهجير السكان الأصليين، وتكريس العبودية، وتأييد فوقية الأبيض، والمساهمة في حربين عالميتين مدمرتين، وتعزيز العنصرية، وكراهية الآخر، والدعوة إلى التفرد الديني، توظف بشكل مدروس اليوم ضد ضحايا الاستعمار الأوروبي.

وإحدى الحالات تتمثل بالتطهير العرقي للفلسطينيين الأصليين ونقل أراضيهم إلى الميليشيات الصهيونية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، التي خططت لها القوى الاستعمارية الأوروبية بقيادة المملكة المتحدة. منذ ذلك الوقت، وأوروبا تنكر باستمرار حق الفلسطينيين في الوجود واستخدمت فلسطين كبش فداء ملائم لمحو جرائمها التاريخية ضد اليهود الأوروبيين، بوصف الفلسطينيين بصورة خاطئة على أنهم يتسمون بالعنف والتطرف ومعاداة السامية.

إن وصف الفلسطينيين بهذه الطريقة لا يؤكد فقط أن إسرائيل الصهيونية، رغم تأكيد جذورها المتأصلة في الشرق الأوسط، تتألف أصلًا من مستوطنين يهود أوروبيين وصلوا من أوروبا لفلسطين في أوائل العشرينيات. وإنما يكشف أيضا، ومن خلال الأساليب الوحشية المستخدمة؛ أنها جزء من مشروع استعماري استيطاني أوروبي مستمر، مشابه لأمثاله في أستراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة، يهدف إلى محو السكان الأصليين حتى يومنا هذا. ما يتسق مع ما قاله الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزغ بأن " الحرب على غزة ليست بين إسرائيل وحماس فقط، ولكنها حرب تهدف حقًا إلى إنقاذ الحضارة الغربية". وأيضًا، يشكل تصوير الفلسطينيين على هذا النحو اعتداءً على أخلاقياتهم ومنظومتهم الأخلاقية. واستخدم الصهاينة وحلفائهم في أوروبا هذا الأسلوب إنما هو لتقويض تطلعات الفلسطينيين إلى التحرير وتقرير المصير.

ومن المفارقة، أن الفلسطينيين الذين وصفوا بأنهم "مجرمون ومتطرفون وعنيفون" يتحملون عبء تحول ولاء أوروبا للشعب اليهودي، الذي ينظر إليه تاريخيًا كخصم أبدي. ورغم أن اضطهاد اليهود قاد إلى الهولوكوست، إلا أن أوروبا تسعى للغفران بإخضاع الفلسطينيين لشكل جديد من الاضطهاد. وهذا يعكس العقلية الموسومة بالعنصرية والعداء للسامية وتفوق الأبيض والإسلاموفوبيا المتجذرة في التفكير الأوروبي.

على نحوٍ مشين، تغذي أوروبا صورًا نمطية كاذبة، تصور الفلسطينيين متوحشين ومتطرفين، وتنكر إنسانيتهم عبر أساليب تجردهم منها. تهدف هذه العقلية إلى الهيمنة والمحو والسيطرة، بجعل الإبادة والقتل الجماعي يبدوان أقل إدانة، معتبرين المجموعة المستهدفة أقل من البشر. يتجسد هذا النهج اللاإنساني في تأكيد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآلف غالنت الحصار الكامل على غزة ومعاملة السكان على أنهم "حيوانات بشرية".

وردًا على محاولة تجريم الفلسطينيين ووصفهم بصورة غير صحيحة، هناك وعي متزايد ومقاومة ضد الوصم الذي تفرضه المصطلحات الأوروبية التجهيلية والمتحيزة عنصريًا.  فالفلسطينيون، عبر تاريخهم، لم يربوا العداء أو العنف أو التطرف أو العنصرية اتجاه اليهود. وإنما فرض المستعمرون الأوروبيون هذه التسميات بالقوة، ما يؤكد الطبيعة الدخيلة لمثل هذه العقلية المتعصبة. وبمقاومتهم الصامدة للتدخل الخارجي في أرضهم وثقافتهم ووجودهم المسالم، عارض الفلسطينيون باستمرار المستعمرين الأجانب من البريطانيين إلى الصهاينة الإسرائيليين. وهذه المقاومة لا تشمل فقط المعارضة الوجودية، بل وأيضا الموقف الأخلاقي ضد الأيديولوجيات التمييزية المفروضة عنوةً من المحتل الأوروبي.

وفي التصدي لمحاولات أوروبا لتجريمهم، يؤكد الفلسطينيون يوميًا أن وجودهم يتحدى أخلاقيات المستعمرين الأوروبيين الصهاينة. ويقاومون رفضًا للتوصيفات الأوروبية، بينما اليهود الصهاينة يستولون على أراضيهم، ويقتلون أطفالهم. ويعي الفلسطينيون من تجربتهم الشخصية كيف يتم التلاعب بالديانات لتحقيق مكاسب سياسية. ورغم الصراعات المستمرة، فإنهم يؤمنون أن اليهود العاديين من غير الصهاينة لا يشكلون تهديدًا وجوديًا ويدافعون عن حمايتهم. ويُنظر إلى الفلسطينيين كمعلمين عالميين، بتأكيدهم على الإنسانية حتى في الأوقات العصيبة، ورفض التسميات اللا إنسانية من الأوروبيين البيض العنصريين، بما في ذلك نعتهم بأنهم "حيوانات بشرية" و"أبناء الظلام" من القياديين الإسرائيليين.  فهم يدافعون عن أساس أخلاقي رفيع، متجذر في أصلانيتهم ورفض إيذاء الأرواح البريئة بناءً على الاختلافات المدركة، وذلك مقاومةً للعنصرية وحفاظًا على أرواحهم الإنسانية الحرة وسط محاولات طمسها.

شأنهم شأن نضال الشعوب الأصلية الحرة الأخرى في العالم، يقف الفلسطينيون ويقاتلون ضد المستعمرين لتحقيق استقلالهم وتحريرهم. وتجدر الإشارة إلى أن المستعمرين، وبالخروج عن أنماط الاستعمار الأوروبي المتعارف عليها، استخدموا الديانة اليهودية لأول مرة لتقديم أجندتهم السياسية في الاعتداء على أراضي السكان الأصليين وغزوها. ومع ذلك، فإن هذا التوجه لا يغير الحقيقة الجوهرية في أن جميع أشكال الاستعمار آيلة إلى الزوال في نهاية المطاف.

 إن القوة الدافعة وراء القضية الفلسطينية هي التحرر، بكل بساطة ووضوح. وهذا البحث عن للحرية لا يقتصر على مجموعة معينة من المستعمرين بل يمتد ليشمل اليهود، والمسيحيين والهندوس والمسلمين، أو أي مستعمرين آخرين. فالاستعمار بطبيعته، مقدر أن تتغلب عليه الشعوب الأصيلة، واستخدام ورقة العداء للسامية ضد الفلسطينيين الساميين أنفسهم يفتقر إلى الاتساق في هذا السياق.

يكشف ميل أوروبا المتزايد والصريح لتجريم الأصوات الفلسطينية التي تبدد هويتها المتعصبة عن نزعة مثيرة للقلق لإدانة الفلسطينيين العرب وكأنهم المحرضون على العنصرية والوحشية ضد محتليهم. ويجد الفلسطينيون أنفسهم تحت ضغط لإظهار الرحمة مع المستعمرين العنيفين، ويتوقع منهم على نحو متناقض أن يكونوا رحماء اتجاه اليهود الصهاينة بينما أوروبا تتصارع مع جريمتها التاريخية. هذه المطالبة بإظهار الرحمة تحمل في طياتها سردية منحازة، بمطالبة الفلسطينيين بكل وقاحة بتقديم الإحسان إلى مجموعة تشكل في أساسها قوة احتلال عنيفة. ويشكل هذا التجريم المتعمد وسيلة لأوروبا لتبرئة نفسها من الذنب المتعلق بالشعب اليهودي، مؤكدة بذلك درس بالغ الأهمية حول جذور العنصرية والعبء الظالم المفروض على الأشخاص الأبرياء. وتكشف الأصداء التاريخية تجنب أوروبا للحساب على تجاوزاتها، وتكريس الضحية وفرض الوصم على شعوب  أصلية غير معروفة لها. وبغض النظر عن اتهامات أوروبا باللا إنسانية والعنصرية، فإن مساعيها تتعثر عندما يقاوم السكان الأصليين الصامدين، سواء في فلسطين أو الجزائر أو جنوب أفريقيا، الاستسلام لفخاخ العنصرية وطمس أرواحهم السلمية والإنسانية الحرة.

 

رابط المقال:

 

https://www.middleeastmonitor.com/20240112-why-palestinians-must-be-criminalised-so-europe-can-feel-better-about-its-history/