ما بعد العنف الملجوم.. عن العزل الاجتماعي للخليل القديمة

ما بعد العنف الملجوم.. عن العزل الاجتماعي للخليل القديمة
تحميل المادة

يأتي هذا المقال استكمالًا لمقال )عن العنف الملجوم الذي اغتال الخليل القديمة)[1] في محاولة لتتبع التحولات المستمرة الحاصلة في الخليل القديمة على إثر فاجعتها الأكبر: مجزرة المسجد الإبراهيمي وما تلاها من سياساتٍ عززت عزل البلدة القديمة، وتجميد مظاهر الحياة فيها، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.

يركز هذا المقال على واقع العزل الاجتماعي الذي تتعرض له الخليل القديمة، وتأثيره على مستقبل الوجود الديموغرافي الفلسطيني فيها على ضوء قصص العائلات التي ما تزال تسكنها، وتأثر هذا السياق باستمرار الحركة الاجتماعية-الاقتصادية في شطر المدينة وانجمادها في شطرها الآخر. 


بين حجري الرحى.. الاستعمار والحداثة

وسط آلاف الناس الذين يرتادون المدينة كل يوم لغايات لا تحصى، تَعبر ريما أبوعيشة، 55 سنة، يوميًا بصمت من بينهم، وكلما اقتربت خطاها من الوصول لمنزلها، قلَّ عدد الناس من حولها إلى أن تصبح وحيدةً في الطريق المؤدي إلى منزلها في تل ارميدة.

تَعبر أبوعيشة الحاجز العسكري الذي اعتاد سكان شارع الشهداء العبور منه بشكل يومي، وتواصل سيرها في الشارع المُفْرَغ منذ عام 1994 حتى تصل منزلها المحاصر داخل مستوطنة "رامات شاي" منذ تأسيسها عام 1984، والتي سكنها في حينه يهود متطرفون ينتمون لحزب كاخ[2].

لا تدخل ريما إلى بيتها المحاط من كافة جهاته ببيوت المستوطنين المتطرفين إلا بعد أن تمر بنقطة عسكرية تتعرض فيها للتفتيش على يد جنود الاحتلال، كما يتم تدقيق هويتها في كل مرة تريد فيها أن تدخل إلى منزلها.

في المنزل المعزول اجتماعيًا بالكامل، يعيش أربعة أفراد أسماؤهم مرفقة مع فرقة الجيش الموجودة في المكان، ولا يتحرك واحدٌ منهم إلا بعد تدقيق هويته، وهم من ثلاثة أجيال مختلفة، ريما وزوجها (في الخمسينيات من العمر)، ووالده الثمانيني، وابنهما الأصغر البالغ من العمر 15 عامًا. أما بقية أبنائها وبناتها، فلم يعد بإمكانهم الدخول إلى منزلهم بمجرد زواجهم وانتقالهم للعيش في المناطق الواقعة خارج ما يعرف بمنطقة H1 [3].

تستذكر أبو عيشة أيام شهر رمضان المبارك التي كانت تقيم فيها وليمة الإفطار لأبنائها وبناتها السبعة وأحفادها في الشارع لأن الجيش لا يسمح لهم بالدخول إلى منزلها. 

يشكل منزل الجد والجدة في الثقافة الاجتماعية الفلسطينية مساحةً من الصلة الحميمية الدافئة التي تجمع عدة أجيال تُكَوِّن الأسرة الفلسطينية الممتدة، وفيه تتشكل هوية عاطفية ذات طابع خاص تربط الأجداد بأحفادهم والأبناء بآبائهم. وهو غالبًا مكان الحكاية الأول، على اختلاف مكوناتها، تجمع حولها أفراد العائلة من مختلف الأجيال، وتتشكل من خلالها ذاكرة جامعة للأسرة، تضاف إلى مجموع الذاكرة الجمعية للمجتمع برمّته.

ولكن، في حالة الخليل القديمة، وبأخذ عائلة أبو عيشة نموذجًا لعائلات أخرى كثيرة، فإن الواقع الأمني المفروض على المناطق المغلقة يؤدي مع مرور الزمن إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الذي يربط بين الأجيال المختلفة في الأسرة الواحدة. ومن ثمّ التلاشي التدريجي للذاكرة والحكاية التي تنتقل عبر هذا النسيج، ولاحقًا تلاشي الوجود على الأرض؛ المُقَدَّر الأهم في معركة الوجود. 

أدّت السياسات الأمنية الإسرائيلية المعقدة المُنفّذَة في الخليل القديمة إلى تفريغ المدينة بشكل تدريجي، فقد دفعت الأزواج الشابة للسكن خارج حدود منطقة H2 لتجنب التعرض اليومي للحواجز العسكرية وقلق المخاطر المحتملة، سواء أكانت هجمات المستوطنين على المنازل، أم التفتيش اليومي الدقيق أثناء عبور الحواجز المحيطة بالبلدة القديمة، علاوةً على احتمالية التعرض لإطلاق النار من جنود الاحتلال أو مستوطنيه. وبالتأكيد للتغلب على حالة العزلة المفروضة ضد سكان المنطقة واجتناب تكرارها. وإن لم يكن هناك قانون إسرائيلي صريح يمنع الفلسطينيين من السكن في هذه المناطق، فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تراكم سياسات التهجير من خلال تعقيد ظروف الحياة اليومية.

وبالعودة إلى تاريخ الحركة الصهيونية، نجد أن المجازر لعبت دورًا مفصليًا في الحرب الديموغرافية، وليست مجزرة المسجد الإبراهيمي وما نتج عنها من سياسات لا زالت تتراكم وتتفاعل إلا امتدادًا لهذا الدور في التهجير والمحو وترسيخ السيطرة من خلال صناعة الخوف.

وعليه فإن الامتداد الديموغرافي للأسر التي تعيش في المناطق المغلقة من الخليل القديمة، يتشكّل في حيز جغرافي بعيد عن هذه المنطقة.

تشير روايات شفوية عديدة من قلب الخليل القديمة إلى تحديات اجتماعية حقيقية يواجهها الشباب من كلا الجنسين عند الإقدام على الزواج بسبب طبيعة الظروف التي تحكم المنطقة التي يسكنون فيها. في أحد نقاشاتي مع سيدة تسكن شارع السهلة، قالت لي :"لما يتقدموا خُطّاب لبناتي ويعرفوا إنه ما عنا بيت برا البلد القديمة، بيعتبروا هذا عائق وسبب للتراجع".

ويتقاسم المشكلة مع هذه السيدة، رجلٌ آخر يسكن تل ارميدة، يتجول في بيت ابنه المجهّز على أفضل وجه، وصوته يتأرجح بين الحسرة والغضب جراء محاولاتهم الدائمة لخطبة فتاة لابنه، والتي لم تنجح في أيٍّ منها بسبب مكان سكن العائلة.

وهنا تصبح الخيارات كلها مريرةً، فإما اختيار بناء أسرة خارج البلدة القديمة أو البقاء دون زواج حتى سن متأخرة بالنسبة لمجتمع المدينة. أما الاحتمال الأفضل فهو زواج أبناء المنطقة من بعضهم وبناء أسرهم في الحيّز نفسه تحت الظروف نفسها، وهو احتمال ضئيل التحقق.

في هذا السياق تقول ريما أبوعيشة: "ممنوع حدا يسكن في البيت، إذا بنموت بيفضى البيت".

انتشر نمط الأسر الممتدة في الخليل بشكل كبير، وتاريخيًا فإن هذا النمط انعكس في طبيعة الأنماط العمرانية للبيوت في الخليل القديمة والتي كانت تُبنى لتضم الأب وأبناءه في "حوش واحد"، قريب من السوق باعتبار أن الخليل مدينة تعرف بنشاطها التجاري وموقعها الذي كان مِحَجًّا لأتباع الديانات الثلاث، ومحطةً للتجار. وقد ظل هذا النشاط رائجًا على اختلاف صوره في الخليل لحين وقوع المجزرة.

على إثر المجرزة، وإغلاق شارع الشهداء ومصادرة حسبة الخضار وكراج الباصات وتقسيم المدينة، تهاوى نشاط المدينة الاقتصادي في قلب الخليل القديمة، واضطر التجار لإعادة افتتاح محالهم خارجها، ولاحقًا لذلك، الانتقال مع عائلاتهم للعيش خارج البلدة القديمة بسبب ظروفها الأمنية المُعقدة وتراكم سياسات الاحتلال في التضييق على سكانها أمنيًا وخدماتيًا واجتثاثهم اقتصاديًا.

وفي خارج البلدة القديمة، في حين كان ينمو اقتصاد المدينة على نحو لبيرالي جزءًا من نهج السلطة الفلسطينية الاقتصادي، كانت الأسر الناشئة تبدأ حياتها في ظل مجتمع يسيطر عليه خطاب يرسخ أن التقدم حداثيًا يوجب بالضرورة أُسَرًا بمعدل أفراد أقل، نتيجةً لخطاب السلطة التنموي المعزول عن السياق السياسي، والمتبنى على هذا النحو في الأساس للإبقاء على مكاسب التمويل الخارجي قائمةً. علاوةً على غياب أي خطاب أيديولوجي يتبنى سياسةً واضحةً فيما يخص المعركة الديموغرافية في الأرض المحتلة جميعها، لا في الخليل فحسب.

وعلى ضوء النمو الرأسمالي المتسارع للمدينة، أصبح النسيج الاجتماعي في الخليل القديمة مطحونًا بين حجري الرحى: الاستعمار والحداثة.

فالأجيال القديمة من الأسر الباقية في الخليل القديمة تكابد الاستعمار يوميًا وتحتك بسياساته بشكل مباشر، وتحاول الصمود حتى الموت كما يقولون، أما الأجيال الجديدة التي غادرت بحثًا عن حياة أفضل، أصبحت تتشكل بتعرضٍ مباشر لخطاب الحداثة والرأسمالية الطاغيين على تفاصيل الحياة.

 

فردانية على حساب القضية

يؤطّر عالم الاجتماع كريستوفر لاش لتأثير حياة الحداثة على الفرد بوصفها فاعلًا سياسيًا-اجتماعيًا[4]، حيث يفترض بأن نمط الحياة في مجتمع رأسمالي لبيرالي يجعل الولع بالفردية على رأس الهرم، مهمِلًا التاريخ على حساب الغرق في التفاصيل الشخصية على المستوى اليومي. وهو ما يغير مضمون السياسة حسب رأي لاش من علاقة اجتماعية واسعة تستقر على أرضية التاريخ، إلى سعي فردي لتحقيق الذات. وبتتبع أثر الحداثة على مجتمع مثل مجتمع الخليل، في شطري المدينة، يظهر أن التحول الاقتصادي نحو السلوك الاستهلاكي المنسلخ عن أي أفكار ذات علاقة بالنهضة أو الثورة أو الدفاع عن الحقوق كان لاعبًا محوريًا في توسيع الفجوة بين أفراد المجتمع في H1 والقضية السياسية المركزية في 2H.

تدور رحى هذه المعركة داخل بيوت الفلسطينيين الذين يختارون بين خيارات أحلاها مُر. فما بين البقاء صمودًا في بيوتهم، وما بين اتخاذ أبنائهم قرار الخروج من المناطق المغلقة بحثًا عن حياة أخف وطأةً، أو سعيًا للنجاة من بطش الاحتلال، تصبح معالم المستقبل لهذه المناطق على المحك.


مشروع vs  لا مشروع

بالتزامن مع التهجير للفلسطينيين من البلدة القديمة، والتضييق على من تبقى منهم فيها من نواحٍ عديدة يتربع على رأسها الأمن، ثم الخدمات، وتفشي البطالة، وما يتعرضون له من تهميش السلطة لهم، يمكن ملاحظة الخطط التي تنفذها الحكومة الإسرائيلية لصالح تطوير البؤر الاستيطانية في المدينة. بالتالي؛ تعزيز الوجود الديموغرافي الاستيطاني وتقديم كافة التسهيلات له.

فنجد أن حكومة الاحتلال خلال العامين الأخيرين شرعت بعمليات هدم لمعالم المدينة، مثل كراج الباصات وسوق الخضار المركزي لصالح بناء عشرات الوحدات الاستيطانية والمتاجر ورياض الأطفال، كما نفذت عمليات تجريف واسعةً في ساحات المسجد الإبراهيمي، ووضعت مصعدًا كهربائيًا في المكان لتسهيل وصول المستوطنين لأداء صلواتهم في الجزء المصادر من المسجد.

أما بالنسبة للفلسطينيين، يمكن ملاحظة تصاعد عمليات إطلاق النار ضدهم في الحيز المكاني نفسه، وإبقائهم دائمًا تحت الشعور بالخطر، سواء في عبورهم إلى خارج مناطق سكنهم، أو في ذهاب أبنائهم إلى مدارس المنطقة تحت رقابة عسكرية يومية، أو حتى لعبهم في الشارع!

 يقول يوسف كرباج: "قامت «إسرائيل» بفضل الهجرة، وكادت فلسطين تُمحى من الوجود بسبب النزوح"[5]. وبتكثيف هذه العبارة في سياق حالة الخليل القديمة، يمكننا القول بأن الوجود الديموغرافي الفلسطيني هناك يواجه تهديدًا حقيقيًا بالمحو خلال ربع قرن على أبعد تقدير -إن استمرت الأمور على ما هي عليه-، خصوصًا في ظل النمو المتسارع لمشاريع تطوير المرافق والخدمات التابعة للبؤر الاستيطانية هناك وربطها بنظام طرق مع المستوطنة الكبرى: "كريات أربعة".

إضافة إلى هذه السياسات، يظهر حرص الجهات الأمنية الإسرائيلية على البقاء بمظهر المُسيطر القادر على إماتة أي عمل مقاوم في المنطقة في مهده، كما حصل في عميلة تصفية الشهيد إسلام زاهدة في 21 أيار/ مايو 2021، على سبيل المثال لا الحصر. ويشكّل العنف الاستعماري العسكري لمحاولة إماتة العمل المقاوم ركيزةً أساسيةً للحفاظ على الاستقرار الديموغرافي الذي يرتبط بمدى الاستقرار الأمني للمنطقة.

في الشارع المُفَرَّغ، يدرك كل فلسطيني أثناء عبوره أنه معرض للاستباحة في أي لحظة، على يد جيش الاحتلال، أو المستوطنين الذين يترك لهم الجيش مساحةَ الاستفراد بالفلسطينيين دون التدخل لإنهاء الاعتداء، بل غالبًا ما يكون التدخل لصالح المستوطنين المسلحين بطبيعة الحال.

 لا يأمن الفلسطيني على طفله أن ينزل للعب في الشارع أمام المنزل، ففي أفضل الحالات ستقع مشكلة بين الأطفال الفلسطينيين وأطفال المستوطنين، تفضي غالبًا إلى اعتقال الأطفال الفلسطينيين.

إنها سياسة تجريد المُسْتَعْمِر للمُستَعْمَر من إنسانيته والعمل باستمرار على إنهاكه وتحطيمه وإبقائه في حالة من اللايقين إزاء الزمان والمكان، في ظل غياب الأمن من حياة المُسْتَعمَرين، والتدمير الممنهج لاستمرارية المكان والزمان، والتغلغل في تفاصيل حياة المُسْتَعمَرين ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وبيولوجيًا، من خلال المزاوجة بين سياسات الإقصاء والاحتواء للمستعمَر وتحويل الحيز المكاني إلى معازل متقطعة لضمان أقل مقاومة ممكنة[6].

تشظت المدينة إلى أزمنة وأمكنة مختلفة منذ عام 1994، وحسبما تُظْهِر الوقائع فإن المستقبل يحمل غالبًا استمرارًا لهذا التشظي الذي تمارسه البنية الاستعمارية لغاية المحو التام.

ومع اتساع الفجوة بين شظايا المدينة، وانسداد الأفق أمام أي أمل جاد للنجاة من سياسة التفريغ الصامت للبلدة القديمة، ومعاناتها المستمرة من التهميش، يظهر في الواجهة سؤال المسؤولية والفعل الموجه أساسًا للسلطة الفلسطينية ومؤسساتها العاملة هناك.



[1] . https://bit.ly/3Vqsv9C 

[2] للمزيد انظر: https://bit.ly/3vkpcqe

[3] قسّم بروتوكول الخليل المدينة إلى مناطق H1 وتبلغ 80% من المدينة تسيطر عليها القوات الأمنية الفلسطينية، ومناطق H2 وتبلغ 20% من المدينة و"تحتفظ إسرائيل بجميع المسؤوليات والصلاحيات للنظام العام والأمن الداخلي" فيها، وتقع البلدة القديمة والمسجد الإبراهيمي ضمن مناطق H2 . في الرابط خارطة جيدة تبين تقسيم المدينة . https://bit.ly/3TbWMJk

[4] الحب السائل، زيحمونت باومن، تقديم ما وراء الذات: هبة رؤوف عزت.

[5] انظر مفهمة فلسطين الحديثة، نماذج من المعرفة التحررية، سؤال الديموغرافيا: بين التوجهات الفلسطينية والإسرائيلية الراهنة: خلود ناصر.

[6] انظر المصدر السابق، من أروقة المحاكم الاستعمارية إلى الأرض: الصراع اليومي على الزمان والمكان في الأغوار الفلسطينية:: فيروز سالم. - بتصرف