مكالمة حرقت روحي ...

مكالمة حرقت روحي ...
تحميل المادة

كانت الساعة الخامسة عصرًا، حين اخترق رنين هاتفي صمت المكان. على الشاشة، ظهر اسم أمي، تبكي بكاءً شديدًا، وصوتها يرتجف: "قصفوا العمارة.. كلهم استشهدوا.." صرخت كلماتها كطعَنات متتالية في القلب، تحاول جاهدة أن ترتبها بين شَهقاتها المنكسرة. وفي لحظة واحدة، تبددت كل معاني الحياة. أخي، أولاده، وبناته.. كيف؟ متى؟ من سيجمع أشلاءهم؟ من سيوارِيهم الثرى؟ أسئلة ثقيلة كأنها عاصفة ضربت رأسي بعثرت خلاياه وأسقطتني مع هاتفي أرضًا، مع صرخة دوت في أركان البيت، صرخة وجع لم تترك لي أي قوة للوقوف. فباتت قبضتي تضرب الأرض دون إدراك.

سارعت زوجتي بالتقاط هاتفي وتحدثت إلى أمي، وانهالت الدموع من عينيها، ثم جاءت تواسيني في مصابنا الأليم، مستدعية شقيقَيها ليشدّا من عضدي. ومن عمق هذا الألم وبرودة الجسد، عادت بي ذاكرتي إلى كابوس رأيته فجر الحرب على غزة. في منامي، رأيت نفسي أقف على سطح منزلي، أنظر من ثغرة أحدثها صاروخ اخترق مبنى عائلتي، دوت منها صرخة استغاثة من تحت الأنقاض. لم أدرك حينئذ أن الواقع سيكون أشد قسوة ورعبًا من ذلك الكابوس.

تلقيت نبأ نجاة زوجة أخي، التي أصيبت بحروق في جسدها، ونجاة ابنهما الأكبر من المجزرة. حمدت الله وقلبي كان يدمى على الشهداء، ومن بقي منهما على قيد الحياة دون سند يضمّد جراحهما ويواسي آلامهما. هاتفت ابن عمي وأنساب عائلتي في المدينة، راجيًا منهم إكرام شهدائنا، لكنهم كانوا سباقين للواجب مع ابن أخي، وذلك لأن عائلتي نزحت إلى الجنوب منذ بداية الحرب. أما أنا وأمي وأختي الكبرى فقد سلكنا طريقًا خارج القطاع بحثًا عن أمان لم نجده في أرضنا.

هاتفت أبي، الذي تلقى خبر المجزرة وهو يقطع طريقه وحيدًا من مواصي خان يونس إلى دير البلح، وصوته يرتجف بدموع أب كسره الفراق، لكن إيمانه بقضاء الله وقدره منحني دفعة من الصبر والثبات، وأوصاني أن أكون السند لأمي وأختي الكبرى. وبقلب مليء باليقين بلقاء قريب على أرض الوطن، أنهيت المكالمة لأعاود الاتصال بأمي، لأخبرها أني قادم إليها لأصطحبها في الحال.

كانت أمي في محافظة أخرى، على بعد ثلاث ساعات سفر. تهيأت للسفر إليها، وأصر ابن عمي على مرافقتي، كأنهما يحتضنان قلبي المكلوم على صدرهما. انتظرنا في محطة الحافلات، إلى أن تحركنا في التاسعة والربع مساءً. في الطريق، لم تتوقف رسائل ومكالمات العزاء على هواتفنا. وصلنا إلى المنزل قرابة منتصف الليل، استقبلتنا أمي بقلب ممزق وجسد نزعت منه الروح. عانقتها عناقًا شديدًا، قبلت رأسها ويدَيها، وفي تلك اللحظة، لمحت عيوننا شاشة التلفاز. كانت إحدى المحطات الإخبارية تعرض مشاهد المجزرة، وجهود انتشال الشهداء. لكنني صُعقت لحظة إدراك أن أمي، منذ تلقيها خبر الفاجعة، وحتى وصولنا إليها، كانت وحيدة، لا أحد بجانبها. تساءلت كيف استطاعت أن تتحمل سبع ساعات وحيدة مع الألم دون مواساة أو عناق يدفئ روحها المكلومة ويخمد لوعة قلبها.

تجهزت أمي للعودة معنا. كانت خطواتنا نحو موقف الحافلات، الذي لا يبعد سوى دقائق معدودة، ثقيلة جدًا وكأنها تجر خلفها آلام الدنيا. في صمت موجع، أقلتنا الحافلة. كان الطريق موحشًا وطويلًا وبدا كأنه بلا نهاية، وروح كل منا تمزقها الحسرة والألم إلى أن وصلنا المنزل عند الرابعة فجرًا.

جلسنا حول مائدة الطعام التي لفها صمت ثقيل، وكأنها جنازة صامتة. حبست غصّة الحلق أنفاسنا، فلم نستطع أن نأكل شيئًا. بعد أن أدينا صلاة الفجر، تركت أمي تحتضن فرشها، عساها تستطيع الهرب من ألم الفاجعة، لكن النوم لم يزر جفونها، فكانت تتقلب بجسد أنهكته الحسرة والألم، وعيون كالجمر من شدة البكاء.

لم أكن أنا بأفضل حال، فالنوم جافاني ليالٍ طويلة بعد الفاجعة، سبقته ثلاث ليالٍ مرعبة، فما أن أضع رأسي على وسادتي حتى تنقطع أنفاسي فجأة، وكأن صخرة ضخمة جثمت على صدري، تدفعني للجلوس على حافة السرير لعلي أتنفس، لم أعلم السبب، لكني استشعرت أمرًا سيئًا سيقع، فقد كان حدسي الذي لا يخطئ.

وصلت أختي الكبرى، وتعانقنا عناقًا شديدًا، كل منا يبحث عن رائحة أخينا في الآخر. ذرفنا دموعًا أحرقَت ما تبقى من صلابتي. لم تكن لحظة اللقاء بين أمي وأختي أقل قسوة، بل كانت عاصفة من الحزن دمرت كل قلعة الصبر. تركتهما تواجهان هذا الألم سويًا، لعله البكاء يطفئ شيئًا من لهب الحزن الذي يحرقهما. أما أنا فالعاصفة لم تهدأ بداخلي، فقد كنت ممزقًا، أبحث عن مكان يبتلع صوت انهياري، مكان لا يراني فيه أحد، لأن واجبي أن أبقى صلبًا متماسكًا أمام الجميع. جاهدت أن أبقى متماسكًا، بينما أنا لست بخير.

بدأ اليوم الثاني للفاجعة موحشًا، يلفنا فيه مرارة الفقد وحسرة البعد عن الأهل والوطن. في ظل هذا الألم، بدأت أبحث في مواقع الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي التي تناقلت خبر المجزرة واستهداف شقة أخي، متشبثًا بكل تفصيلة، حتى وصلتني صور موجعة لم تُنشر في أي وسيلة إعلامية. رأيت كيف طايرت أجسادهم جميعًا من داخل الشقة لتسقط على بعد ثلاثين مترًا من مبنى العائلة. كانت ابنة أخي الكبرى مقطوعة الرأس، يقطر جسدها دمًا، بينما انطبقت الكتل الإسمنتية على جسد ابنتيه الأخريين حتى أنني دققت في جراحهما. أما الابنة الصغرى، فلم يُعثر على جثمانها إلا في اليوم الثاني للمجزرة، في مبنى الجيران. وشاهدت نجل أخي، ورأيت دمه وقد ارتطم رأسه بجدار مطبخ الجيران. وجسد أخي بين يدَي رجال الإسعاف أسفل مبنى العائلة. ورأيت زوجة أخي، إلى جوار زوجها المسجّى في سيارة الإسعاف، تدعو الله لأسرتها بالنجاة. "إنها لحظات من الألم لا تُنسى."

استقبلنا الأقارب والأصدقاء، الذين وفدوا إلى بيتي ليقدموا واجب العزاء والمواساة. هذا المكان، الذي ليس لنا، أصبح مأوى لأرواح مكلومة، لكنها تتكاتف وتساند بعضَها البعض. فقد نالت الحرب منا جميعًا، ولم تترك أحدًا إلا وخلّفت في قلبه جرحًا عميقًا. فكل منا فقد جزءًا غاليًا من حياته، من عائلته، أقاربه، أنسابه، أصدقائه، والقائمة لا تنتهي

لم أتوقع أن تهزّني مكالمة مرئية من عمتي. رأتني بضعف لم يعهده عليّ أحد من قبل، وبمظهري الذي أهملته. طلبت مني حلق لحيتِي والاعتناء بنفسي، وأن أكون قويًا، و"أودعتني وصية" خرجت من قلب يعتصر ألمًا، وعيون تذرف الدموع دمًا. عمتي، التي فقدت ابن أخي، زوج ابنتها، والد أحفادها، وفقدت أحفادها أيضًا، كانت كلماتها تحمل ثقل ألم الفقد والغربة معًا. فهي وعائلتها تعيش في بلد آخر، ولم تمنحهم الظروف القاسية في غزة فرصة ليكونوا إلى جانب ابنتهم في مصابها. لم تتمكن عائلتها من احتضانها وتضميد جراحها من تلك المجزرة، أو مواساتها على فقدان أسرتها.

أخي يسبقني في العمر بست سنوات، كان جزءًا من كياني، حاضرًا في حياتي. كنا رفيقي درب، تجمعنا علاقة نسجها الحب والاحترام العميق، نشارك فيها الأفكار والآراء، نؤدي معًا واجبات الحياة العائلية والاجتماعية. لقد تشاركنا في الكثير مما يصعب حصره. كانت ذكرياتنا معًا أكبر وأعمق من هذا العالم على اتساعه. بعد أن ارتقى شهيدًا، زارني في منامي، وفي إحدى الرؤى، شدّ على كَنفِي بوَصية: "تمسّك بمبادئك. لا تبرح طريق الخير والعطاء. قف في وجه الظلم واستمد قوتك من الحق." أرادني أن أظل كما عهدني دائمًا: ثابتًا، لا يتزعزع، ولا يتردد في الحق.كانت روحه نبعًا صافيًا من الحب والعطاء، يروي به القلوب من حوله. لقد كان رمزًا للبر، تملأ الأيام بوجوده بهجة وسكينة، ولا يرفض لوالديه طلبًا، حتى في أبسط الأمور. كانت كلماته وأفعاله شهادة حية على عمق إحساسه وشدة برّه بهما.

كانت مكانته في القلوب لا تُدانِيه مكانة، يحظى بحب واحترام كل من عرفه. لقد ترك وراءه سيرة عطرة وذكرى لا تموت، وكأنه لم يرحل، فما زال أثره باقيًا في كل عمل خير قام به، وفي كل ابتسامة رسمها على وجه محتاج.زهـرات أخي الشهيدات لهنّ تذكارات عزيزة لا تُنسى، كن جزءًا من حياتي وحياة زوجتي. كانت شقتنا بيتهنّ الثاني، حيث يجتمعن ويتبادلن الأحاديث والضحكات التي كانت تبتهج قلبي. لقد كن كالنسمات الرقيقة التي تملأ بيتنا سعادة وسرورًا.

في يوم ميلادي، كان لهن لمسة خاصة، حيث يفاجئنني بقالب كيك وقطع من الحلوى المصنوعة بأيديهن الماهرة. كن مبدعات في إعداد الشوكولاتة وقطع البسكويت بالمكسرات، استعدادًا للأعياد. كانت تلك الأيام مليئة بالحب والسعادة والجمال. أما نجلـه الأصغر، الفتى الخلوق، الجميل، الهادئ، الحنون. كانت ابتسامته النقية تبعث الراحة في النفس، وطاعته المكللة بالحب كانت بلسمًا لقلوبنا. لم يتردد يومًا في تقديم العون لكل من له حاجة. رحيله فراغ لا يمكن أن يُملأ. لقد ترك في قلوبنا أثرًا جميلًا لا يزول.

كانت أسرة تفيض بالسعادة والسكينة، وتتألق بالعلم والأخلاق وحفظ القرآن الكريم. كل فرد فيها ترك بصمة من الحب والاحترام في حياة كل من عرفهم. اليوم، أصبحت تلك الذكريات ألمًا يعتصر قلوبنا، وفراغًا لا يملؤه أحد. فقد رحلوا وتركوا وراءهم صمتًا يدمي الفؤاد. لم يعد لضحكاتهم صدى، ولا لوجودهم أثر، لكن أرواحهم باقية في قلوبنا، وأصواتهم محفورة في الذاكرة. وداعًا يا من كنتم مصدرًا للسعادة والبهجة. لقد فقدناكم، وفقد قلبي جزءًا لا يُعوَّض منه.أعظم الله أجْرنا، ورحم الله شهداءنا. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: "الحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون."