واد علي ..تجوال في مَسارُ الفِداء والمَاء

واد علي ..تجوال في مَسارُ الفِداء والمَاء
تحميل المادة

 

  بجوار قرية اللبن الشرقية على بعد 22 كيلومترًا جنوب نابلس، يَمرُّ النّاس يَوميًا في طريقهم إلى رام الله في شارعٍ يخترق مجرى وادٍ عريض يتموج بين سلسلة جبال وتلال، وصولًا في أقصى الجنوب على ذات الطريق إلى مشارف خربة سيلون شمال قرية ترمسعيا. ويُعرف هذا الواد باسم وادي عليّ، وهو واد شَتوي يبدأ مجراه من الأطراف الغربية لجبال قرية قريوت جنوب نابلس، ويمضي في هبوطٍ كبيرٍ لِفرق الارتفاع بين منحدرات جبال: الخوانق والطنطور ومراح العنب[1]، إلى سهل قرية اللبن، ومنها غربًا إلى وديان البحر الأبيض.

الخريطة

  لهذا الواد حكاية في اسمه ونسبه، وحكايات في علاقته مع الفِداء الفلسطيني، وثقافة الرفض للاحتلال ومقاومته، والأمر ليس حديثًا ولا مُرتبطًا بالاحتلال اليوم؛ فالقِصَصُ والروايات التي شهدها الواد تقول: بأنه كان حَمّالًا للماء والفداء، وفيه بركة أصبَغَها الأولياء، فصارًا جزءًا من ذاكرتنا عن البلاد منذ قديم الزمان.

●        صَحن الوادي

   يجتمع ماء الشتاء في جبال قريوت، وينحدر منها غرابًا عبر واديين صغيرين تتوسطهما أرضٌ تعرف باسم "حرايق الشيخ"، وهما وادِيا عين العريق (شمالًا)، وسيلون (جنوبًا)، فَيجتمعان معًا ويشكلان أول مسار وادي الشيخ عليّ، ويمضي هذا الوادي في طريقه غربًا بين الجبال العالية، حتى يَرفده وادي المغاسل، الآتي من خربة سيلون وسفحها الغربي، فيلتَحِمان معًا ويهدر صوت خَرير الماء في وادي الشيخ عليّ نحو "دَرب إمغرب"، ويمضي الواد مُتعرجًا على اتساع الطريق بين طرفي الواد، في مساره العريضٌ كأنه سهل ضيق رفيع، وتُحيط به طوال مساره سلسلة التلال والجبال الجرداء المُتتابعة، فيمضي غربًا تاركًا خلفه أراضي قريوت عابرًا أراضي قرية اللبن الشرقية، حتى إذا كان عند مطلع جبل الرّهوات الذي فيه مغارة وليّ الله الشيخ علي، انصب إليه واد صغير، ليمضي بعدها بقوته مختالًا ومتبخترًا قبالة خان اللبن في أقصى السّهل المُتَّسِعِ جَنوبًا وغربًا، حيث يكون الواد كمن خرج من فوهة مُحْقَانْ إلى سَهلٍ واسعٍ وعريض.

الصحن

  وعلى بعد نحو 500م، من درب وادي عليّ في مقابل خان اللبن، وحيث يصبح الوادي وسط السهل العريض، ينحني مساره ليعبر الجِسر أسفل طريق نابلس- القدس التاريخية، ثم ينحدر غربًا عبر سهل اللبن (المرج)، جاعلًا السهل على شماله، والجبال العالية في جنوبه وغربه، فيعبر مُتلوّيًا وَمُتَمايِلًا من ثِقَلِ حُمولته، نحو وادي عَمّورية، لِيُنهِي هُناك مِشوارَه إذْ تَرُدُّه الرّيحُ الآتية من جهة البحر، فيُسَلّم أحماله ويستريح، تاركًا لغيره من وديان البلاد أن يَحمل الماء الجاري إلى البحر الكبير بالقرب من يافا.

   مَلعَبُ الوادي وساحته هي الفجوة العريضة بين الجبال والتلال، التي يخترقها الطريق العام اليوم، من من جهة خربة سيلون حتى جبل الرهوات، وعند أطراف هذه الفجوة الواسعة من الشرق إلى الغرب تقوم أطراف التلال والجبال العالية تلك الجبال التعلى جانبي الوادي، مُلقية إليه بالماء عبر شِعابِها الصَغيرة كُلَّ شِتاء، راوِيَةً أرض الواد الصَخرية الممزوجة بالسَّمَكَةِ الحمراء. وبعد أن تأخذ هذه التربة حاجتها وتصبح (لَبِصَةً)، تفيض عُيونها المَنثورة على أطراف الواد يَمنة وَيَسرَة. وأوّل من ينبض بماءِ الأرض من تلك العيون "بير وادي علي"، وهو نبع يقع في مجرى الوادي الأول قبل أن ترفده الوديان التي لا تجودُ بمائها إلا بَعدَ رَيٍّ وَشَبَع، وعلامة ذلك أن تفيض عيونهما بالماء. فعين "المرة" علامة شَبَعِ وادي سيلون، وعين "العَريق" تَحتَفي بِوَفرَة ماءِ قريوت وتصبُّه نحو الواد، أمّا وادي المغاسل، فتباركه عين "مخيمر" حين يمتلئ بطنها العَميق ماءً مِنْ خَيرِ الله الجاري في الوادي. ولن يَهدُر الواد على عرضه علامة على أنها سنة خيرٍ، حتى تفيض بركة خان اللبن وصحن عينها ماءً. وهي للأسف عيون مسلوبة ومخنوقة بفعل الاستيطان والوصول إليها شبه مجازفة للمتجول الماشي.

  وعلى مَطلّاتِ الوادي في الجزء الشرقي منه، حيث انحدار الجبال نحو الصَحن الواسع والممتد طوليًا من غرب قريوت حتى جبل الرهوات، تكون الجبال جرداء في الغالب لا شجر فيها، حتى إذا أقبلت على جبل الرهوات وكانت وجهتك غربًا، فإنك ترى، على السفوح والتلال، الأشجار التي غَرسها الفلاحون، وكان أكثرها اللوز، ثم الزيتون، ولم تفتقر أرضهم لأشجارِ تين وعنب ورمّان وَشجر حُرجي كالبلوط والصنوبر وغيره. ثم زَرَع بعضهم أشجار اللوز في وسط السَّهل، فكانت ظلًا في صَيفِ الحَصّادين، وَمُستَراحَ الرُّعاة ومجلسهم حين ترعى أغنامهم في المَرج المُمتد حتى الخان، فكان من بَرَكَةِ تنوع الجُغرافيا في وادي الشيخ عليّ، تداعي الحياة إليه طَيرًا وحيوانات وَعُشبًَا وَنبتًَا، ولذا تَراهُ سِجّادَة فُسيفِساءٍ زاهيةَ الألوان في رَبيعِ البلاد.

 وتتصف سلسلة الجبال الممتدة في محيط وادي عليّ بطابع العلُو والوُعورة، وأنه ليس من السهل إخضاعها، وقد ذكر ذلك أوليا جلبي في رحلته بين العامين (1648-1650) حين نزل في خان اللبن، ومنه صعد إلى العقبة "عقبة الحِلّان" التي فوقه، فقال: "والخان واسعٌ لكن لا سُكّان حوله، ومنه تَستمر الطريق في عقبة مُنحدرة، وعندما تسلقنا فيها شعرنا بألف صعوبة حتى وصلنا إلى قمّتها، وهي مرتقى صخري مليء بالحجارة"[2].

مشهد

 

●       مَولانا الذي لَه الواد

 في الكتف الجنوبي لجبلِ الرَّهَوات، وتحديدًا في منتصف وادي عليّ، وحيث ينتهي مسار الواد بين سلسلة الجبال شرقًا، الذي يُشبه أنبوب المُحقان، وينفتح على السهل الواسع غربًا، تقع مغارة الشيخ عليّ، وموضعها في درب الصُّعود إلى المُرتقى عند الصخور الصَّلبة (الصُّفي)، وأمامها "حَبَلَةٌ" مُنبَسِطَةِ، ومن باب المَغارة المُمتلئ بِشَمْسِ الصّباح، كانت الحكايات الأولى لتاريخ هذه الناحية جنوب غرب قرية قَريوت، وذلك حين أصْبَغَ الشيخ عليّ اسمه على المكان الذي آوى إليه، فصار الواد باسمه، وكذا المغارة التي صارت مقامًا لولي الله، به عُرِفَت وله نسبت.

 يقول أهل تلك البلاد: "هذا مقام الشيخ عليّ الزاهد، وهو وليٌ من عَهدٍ قَريب"، فهو بِجَزمِهم ليسَ رَجُلًا أُسطوريًا ولا مَجهولًا يُستدعى من بطن التاريخ، بَل إنّ حكايات النّاس تَذكرُه كأنّه عاش بينهم بالأمس، ولذا يُنسب له من الأرض هذه المغارة والواد الذي تحتها، وكذلك عين الماء "بير وادي علي"، وإلى الشرق من مقامه أرض تُسمى حَرايق الشيخ.

  ومقام "الشيخ علي" واحد من مقامات الأولياء التي عَرفتها تلك المنطقة الواقعة بين قرى: سنجل- قريوت- اللبن الشرقية- والساوية، أمثال مقامات أولياء الله: الشيخ محمد المسيب، زيد طاروجة، وأبو العوف، وهؤلاء كما يقول أهل قرية اللبن الشرقية: "أولياء الجبال وحُماة المارة على درب نابلس - القدس، وكانوا مَقصد النّاس لطلب البركات، واستدعاء عَون رَبِّ السماوات".

 لكنَّ الشيخ عليّ كان على غير حال إخوانه من الأولياء، إذ كان مقامه في مغارةٍ صغيرة مجهولة، ولا بناء مُقبب عليها[3]، ولعل ذلك لبُعدها عن الطريق وانزوائها جانبًا قبالة قرية قريوت، إلا أنها مغارةٌ مُباركة بزيارة العجائز واحترامهن، وتجنب إزعاج الولي بإيواء الحيوانات إليها، أو رمي ما يُدنس حرمة حِماه حتى وإن كانت مَغارة.

   يقول بعضهم: إن مِنْ كرامات الشيخ عليّ في الواد المَنسوب له، أنه يُبارك كل فعلٍ فيه تضحية وفداء، ويستشهدون على ذلك بالثورة على إبراهيم باشا المصري، ثم الثورات ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني، وفي الأمر حكايات لا بُد من سماعها.

 

●       الجيش الذي حَمى القدس

 تشير المصادر التاريخية  أنه في سنة (614هـ\ 1217م) تحرك الملك العادل لمواجهة حشود الفرنجة في عكا، وزحفت نحو بيسان، وأنه لما حشد جيشه عند دمشق طلب من ابنه الملك المعظم عيسى الذي كان واليًا على نابلس، أن يبقى فيها مع بعض الجند لمنع تقدم الفرنجة من طريق بيسان نحو القدس. فاستعد الملك المعظم لذلك وتوجه مع قواته إلى عقبة اللبن خوفًا على القدس[4].

قلت: فإذا كان تحرك الجيش من نابلس إلى عقبة اللبن، فإنما كان معسكره في صحن وادي علي، وهو لا ريب طريقه من نابلس إلى القدس، فكان الوادي مباركًا إذ فيه رابط جيش يرفع لواء حماية القدس.

 

●       مَقْتَلَة رِجال البَاشا

  تقول الرواية بحسب كتاب: "حروب إبراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول"، المنسوب لمؤرخ مجهول، بأنه: "في مُحرم حضر إبراهيم باشا من القدس إلى يافا وأرسل طلب من نابلوس والخليل شباب ليدخلوا في عسكر النظام فأبوا عن ذلك، وأظهروا العصاوة، فتحرك بالغضب عليهم، وأمر بجمع العساكر المتفرقة في المدن، لأن أكثر عساكره كانت رجعت إلى مصر ولم يبقى عنده إلا القليل متفرق في المدن، فجمعهم وأرسلهم صُحبة "حسن بيك" أمير الآي و "خليل آغا أبازه"، وحين وصولهم إلى وادي سَلان "سيلون" في أول جبل نابلوس، كانوا النابلسية مُكمنين هناك فطبقوا عليهم في الوادي من كل الجوانب، وانتشب الحرب بينهم، وقتل حسن بيك وخليل آغا وسبعين نفر من العسكر والباقي هربوا، وحينئذ ابتدوا أهالي جبل نابلوس يربطوا الطرقات من أبواب عكا إلى القدس، وأما إبراهيم باشا تحصن في يافا في دير الافرنج لقلة العساكر، وكان "سليم باشا اميرلوا" هناك، فأرسل أعلم محمد علي أن ولده تغلب وأنه تحت الحصار لقلة العساكر".[5]

يؤرخ هذا النص لحرب جبل نابلس ضد جيش إبراهيم بن محمد علي باشا، وذلك في وادي عليّ بالقرب من خربة سيلون منتصف العام 1834م (صفر 1250 ه)، بعد أن تمردوا عليه بقيادة الشيخ قاسم الأحمد والشيخ ناصر المنصور[6]، رافضين إمداده بالجنود، إذ طلب إليهم تجنيد أبنائهم لحروبه، فلما رفضوا ذلك حرك جيشه لتأديبهم، فَتلقوه في وادي عليّ، وقد هَرَعَ لِحَربِه كُل أبناء المشاريق تحت إمرة الشيخ ناصر بن منصور.

  تقول الروايات الشفوية إن الشيخ منصور بن ناصر وزع المُقاتلين على الجبال، والتلال التي يمر منها الوادي، وجعل على رأس كل جماعة شيخ من شيوخ القُرى، وأمرهم بالتريث وعدم الاستعجال، فلما أقبل جيشُ الباشا جَعلوه يعبر بطن الوادي العريض متقدمًا، حتى إذا أبصرهم الشيخ منصور بن ناصر من مقعده أمام مغارة الشيخ عليّ، أشار إلى ثوّاره بأن  يتلقفوا جيش الباشا، فانهالوا عليه من التّلال والشِّعاب، وأطبقوا عليهم من عُلو، فما كان بمقدورهم دَفعُ الموت ولا رَدُّه، فَقتلَ الثوار يومها أهم قادة جيش إبراهيم باشا و70 نفرًا من جنوده، قبل أن يَفرّ الباقون جنوبًا من حيث أتوا نحو طريق القدس.

  وهذه واحدة من أوائل الحكايات التي يرويها الناس، عن بركات الشيخ عليّ -قدّس الله سره- في رَدِّ الغزاة ومجابتهم، في حمى الوادي الذي تُظلله رايةُ ولايته، فهو معهم في حربهم ونزالهم ضد الغُزاة.

 وقد شكلت هذه الواقعة تَحوّلًا في الثورة على ابراهيم باشا، فتقدموا نحو القدس، ورابطوا على مداخل يافا[7]، وكادوا أن يهزموا أحلام إبراهيم باشا للأبد، حتى أن غالبية المناطق في فلسطين سقطت بأيدي الثوار.[8] غير أن نجدة مصر بقيادة محمد علي قد وصلت، فهجمت على جموع الثوار في أكثر من موقعة منها موقعة الدير (دير الغصون)، ومعركة قرية العنب (أبو غوش)، ومعارك القدس والخليل، فهزمت الثورة، ولاحَقهم إبراهيم باشا حتى اعتقل قادتهم وقتلهم شنقًا في دمشق وعكا[9]، بل إنه حَرَّق وَخَرَّبَ كل البلاد التي آوتهم واستقبلتهم، كمدينة الكرك ونواحيها[10]. وذلك ثأرًا لمَقتلة جَيشه، وقمعًا للثورة واخمادًا لها.

 

●       شَجاعَةٌ نادِرَة

خان اللبن

  تقول الحكاية المتناقلة شَفيهًا بأن "أبا محمد المقدسي" كان قد عَبَرَ طريق القدس مُتجهًا إلى نابلس، وفي الطريق استوقفه جنود من الإنكليز وصعدوا إلى حافلته، ومضى بهم في طريقه، وبعد أن أدار ظهره لمقام أبو العوف -دستور لخاطره- وانحدر نازلًا إلى وادي الشيخ علي عَبرَ ليّاتِ اللبن (العَقبة)، انتبه إلى معركة تدور بالقرب من الخان بين جنود الإنكليز والثوار العرب، فلم يُفكر الرّجل مَرتين، إذْ كَيفَ سَيمضي بهؤلاء الجنود ليسهِموا بقتل إخوانه، وبلا ترددٍ  حَرَّكَ السائق مقود حافلته، فاندفعت عبر الليّات وتدحرجت من الأعلى إلى قاع الجبل، مُنهيًا بذلك حياة الجنود مع حَياته، في تضحية بلغت أعلى مراتب الشجاعة.

 يُقال؛  -والعهد على ذمّة الرّواة- بأن أهالي اللبن الشرقية حَملوا جثمان "أبو محمد المقدسي" فدائيُ وادي عليّ، ودفنوه في السّهل تحت ظل شجرة اللوز شمال الوادي المنحدر غربًا.

 

والحال في وادي عليّ بَعد "أبو محمد" كما هو قَبله، إذ ظل الواد طوال أحداث ثورتنا الكُبرى شاهدًا على الاشتباك والمواجهة، فتارة يُهجَمُ على مخفر البوليس الذي أقيم داخل مبنى الخان المملوكي، وأخرى تهاجم الدوريات في محيطه، ومن بين تلك البطولات:

أولًا: في البلاغ الرسمي الذي أذاعته الحكومة رقم (139) لعام 1936، أعلنت بأنه بتاريخ 25 حزيران/ يونيو 36 أطلقت، عصابة كبيرة مسلحة من العرب، النار على دورية عسكرية على طريق نابلس شمالي خان اللبن، فوصل البوليس والجند من نابلس وتَعقبوهم، واشتبكوا معهم بالقرب من قبلان وعقربا.. وقد جرح وكيل امباشي من فرقة (سي فورث هايلاندرز) بجراح خطيرة، ثم أعلن المندوب السامي وفاته في مساء يوم المعركة.

ثانيًا: في البلاغ الرسمي للحكومة رقم (241)، أعلنت أنه بتاريخ 1 أيلول 36 فجر لغمًا في سيارة (لوري عسكرية) بالقرب من خان اللبن[11].

ثالثًا: في بلاغ من ديوان الثورة العربية عن عمليات فَصيل خالد بن الوليد بقيادة خميس العقرباوي ضد القوات البريطانية في منطقة نابلس بتاريخ  2\1\1939م ذكروا بأن:

"رابط الفصيل المذكور على أربعة مفارز قرب ليّات اللبن على الطريق العام، وفي الساعة الثانية عربي حضرت قوة من الجند البريطاني، فأطلق المجاهدين النار عليها بصورة منتظمة. وقد دامت المعركة أكثر من ثلاث ساعات وكانت خسائر الجند كثيرة وشوهدت دماء في مكان المعركة، وترك الجيش البريطاني ورائه بندقة إنجليزية وماية طلقة، استلمَهم الفصيل، ولم يحصل ولله الحمد إصابات للمجاهدين"، استعمل الجند خلالها المدافع الجبلية والرشاشة"[12].

 صورة

●       أول الغيث ساهر

 نشط المشروع الاستعماري في حمى وادي عليّ نهاية السبعينيات-بداية الثمانينيات، فكانت أول مستعمرة هي (شيلو) سنة 1979م، في أقصى جنوب الوادي، ثم (معالي لبونة) سنة 1983، في أقصى غرب الوادي، وفي العام 1984 أقيمت مستعمرة (عيلي)[13]، على جبل الرهوات في وسط الوادي حيث مغارة الشيخ عليّ ومقامه.

  ولم يكن جَديدًا فكرة البحث عن دلالةٍ لأسماء توراتية لرواد الاستعمار في المنطقة، فَخربة سيلون قديمة وآثارها بارزة ومناسب لها (شيلو)، و(معالي لبونة) اسم توراتي يركب دلاليًا بالنسبة لهم على اسم قرية اللبن "قرية البخور واللُّبان الأبيض"، أما (عيلي) فكان اسمها الأول (جفعات لبونة)، ثم استقرت التسمية على (عيلي)، وذلك لحين تدبر اسم شَخصيه توراتية تُنسب لها المستعمرة.

 كان الاستعمار نشطًا سَريعًا في هذه المنطقة، وقد خدمته حركة الناحال العسكرية، وبدأت المستعمرات تعزل هذه المنطقة العربية، وتلتهم أرضها وتكتب بالقوة تاريخًا جديدًا على امتداد وادي علي، من أقصى الجنوب حيث خربة سيلون، مرورًا بالوسط حيث مستعمرة عيلي، وانتهاء بآخر نقطة في مسار الوادي حيث مستعمرة معالي لبونة في أعلى الجبل.

   غير أنَّ فتى نابلس المُدَلل الشهيد ساهر حمد الله تمام (1971-1993) -رحمه الله-،  أصرَّ أن يُبقى للوادي شَئيًا من أثَرِ حِكاياته العَتيقة، فَشَدَّهُ عِرقُ الفِداء، فأقبل في شاحنته يوم 15 آذار/ مارس 1993 كاتبًا مَشهدًا جديدًا في حكايات الوادي، وذلك حين تقدم مُسرعًا؛ فدهَسَ جنديان على مدخل مستعمرة عيلي. 

  والقصة التي بدأها ساهر لم تنته بعد، ففي يوم 20 حزيران/ يونيو 2023م تقدم شابان من قرية عوريف قضاء نابلس، إلى ذات المكان الذي بدأ به ساهر تمام رحلته، وسجّلا فصلًا جديدًا من سيرة الفِداء، فكانت واحدة من العمليات التي باركتها يدُ مونا الشيخ عليّ في واده على مدخل مستعمرة عيلي.

 الحاصِلته؛ هذه بعض سيرة وادي عليّ، حمّال ماء أقصى جنوب نابلس إلى البحر غربًا، وشيءٌ ما أُثر عنه من حكايات وأحداث، نرويها لتبقى ذاكرةً حيّة للمشائين في البلاد وللعابِرين هذه طريق صباح مساء، كي لا نتوجس من توحش الاستعمار على جانبي الطريق. 

 

 مستعمرة

مدخل مستوطنة "عيلي" حيث نفذ الشهيد ساهر تمام عمليته عام 1993

 



[1] سلمان حسين أبو ستة، أطلس فلسطين 1917-1966، ط1 (هيئة أرض فلسطين: لندن، 2011)، ص 359.

[2] شكري عراف، خانات فلسطين (مركز المعمار الشعبي - رواق: 2013)، ص 169.

[3] شكري عراف، طبقات الأنبياء والأولياء الصالحين في الأرض المقدسة (مطبعة إخوان مخول: ترشيحا، 2013)، ص200.

[4] رئيسة عبد الفتاح العزة، نابلس في العصر المملوكي (دار الفاروق للثقافة والنشر: نابلس، 1999)، ص 59-60.

[5] د.م، حروب إبراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول، علّق حَواشيها ووضع فهارسها د. أسد رستم (المطبعة السورية بمصر الجديدة)،  ص 39.

[6] الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا، مج 2 (الأوراق السياسية لسنة 1248-1250 هـ) ص 116.

[7] عادل مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني (1700- 1918) (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية: بيروت، 2003) ص 149.

[8] خالد محمد صافي، الحكم المصري في فلسطين 1831-1840 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2010) ص 250.

[9] تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني، مرجع سابق، ص 154.

[10] إحسان النمر، تاريخ جبل نابلس والبلقاء، (جمعية عمال المطابع التعاونية، 1975)، ص 258.

[11]  من أوراق أكرم زعيتر (وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918- 1939)، ط 2 (مؤسسة الدراسات الفلسطينية: بيروت، 1984) ص 45. 

[12] المرجع نفسه، ص 553. 

[13] يُنظر: موسوعة المستوطنات الصهيونية في فلسطين 1870-2012، علي نجم الدين (إعداد وترجمة)، (هيئة جائزة سليمان عرار للفكر والثقافة، 2014.